ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل فاحش في كل بقاع الأرض . “تبشرنا” المنظمات الدولية ان موجة الغلاء ستستمر لسنوات أربع مقبلة . على العالم، إذن، ان يتهيأ لموجات من الانتفاضات والهبات الاجتماعية العاصفة التي مدارها على قضية الخبز . ستعود النقابات العمالية الى المشهد بعد حقبة من الاختفاء لم تكن تكسرها إلا اطلالات محتشمة تأتي كومضة برق لا تعقبها اصوات رعود . سيخرج العمال من هامشيتهم وفي ركابهم مهمشون من بروليتاريا رثة وعطلة ومسحوقين كي يأخذوا حقوقهم بأيديهم . ستساندهم الطبقة الوسطى لا محالة لأن ضربة الغلاء الجنوني لم توفر اطمئنانها الوهمي الى امانها الاجتماعي . قد تستعيد حركات الشبيبة عنفوانها في مثل هذه المناخات من النهوض الاجتماعي وتتقدم لادارة فصول من ذلك النهوض . غير أن الاحزاب السياسية ستكون وحدها نقطة الضعف في هذا المشهد المتوقع بعدما فقدت عافيتها في كل العالم وترهلت ومالت حركتها الى افول، وان كان بعض قليل منها قد ينجح في تركيب آلته “الحزبية” على بطارية الحركات الاجتماعية من أجل إعادة تشغيلها بعد عطل مديد .
قد يقع هذا كله، وقد يقع بعضه . قد يصبح مسرحه معظم بلدان العالم، وقد تنحصر ظواهره في بعض قليل منها . لكنه لا محالة قادم . وليس القطع في اللغة ضرباً من ايمانية يقينية راسخة في النفس، ولا هو من بقايا ثقافة “الحتمية التاريخية”، فينا، ولا مما يحملنا عليه اغراء التحليل المادي التاريخي للأحداث والظاهرات وجاذبية الرؤية الطبقية للعلاقات الناظمة لتلك الظاهرات . لا، ولا بقية من “طوبى ثورية” في الوجدان أتت عليها مصائب هذا العصر بمعاول الهدم ما يجيز الحديث عن هذا المشهد بلغة الواقع المتحقق لا بلغة الفرضية المحتملة . . الخ . وإنما هي لغة تستقي مشروعيتها من دروس التاريخ، وأولها أن صعود الحركات الاجتماعية “ومنها الثورات والانتفاضات والاضرابات الكبرى” أو تراجعها إنما يقترن بالقدرة أو بعدم القدرة على احتواء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى في الدول والمجتمعات الانسانية . وكلما أمكن استيعاب أزمة من هذا النوع، أمكن احتواء حركات الاحتجاج . أما حين تفيض الأزمة عن حدود وإمكانات الاستيعاب، فلا شيء عندها يمكنه ان يعطل دينامية اجتماعية موضوعية في التاريخ الانساني .
هكذا مثلاً كانت سيرة الرأسمالية مع أزماتها المتعاقبة ومع الحركات الاجتماعية التي انتجتها الحقبة الرأسمالية . منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى سبعينات القرن العشرين الماضي، لم تتوقف حالة الحراك الاجتماعي الاحتجاجي على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي . شهدت هذه الحقبة المديدة صعوداً متعاظماً واتساعاً متزايد النطاق للحركات النقابية والعمالية والمطلبية رسمت نضالاتها حدوداً للمسموح به وللممنوع في مجال الحقوق الاجتماعية للمنتجين “عمال، فلاحين” ولقوى الطبقة الوسطى، وأمكنها أن تحد من وحشية الاستغلال الرأسمالي لقوة العمل بمقدار ما نجحت في انتزاع حقوق جديدة لم تكن في الوسع قبلا “الضمان الاجتماعي، زمن عادل للعمل، اجر “عادل” على ساعات العمل . التأمين الصحي” وفي الأثناء، كان الحراك هذا يوفر البيئة المثالية لانتعاش فكرة التغيير الاجتماعي ونمو القوى السياسية التي تحمله مشروعاً اجتماعياً نقيضاً للنظام القائم، ومنها القوى الاشتراكية والشيوعية . وحصل أن بلغ هذا الحراك الاجتماعي والسياسي حد النجاح في الانتقال من حال الاحتجاج الى حال الثورة السياسية التي اطاحت بالنظام الرأسمالي .
لكن الرأسمالية كانت تملك باستمرار ان تستوعب ازماتها: أن تجيب مطالب النقابات والقوى الاجتماعية التي تمثلها هذه النقابات . وان تستوعب الطبقة الوسطى في النظام الاجتماعي والسياسي، بل وان تستوعب قوى الثورة نفسها مثلما حصل في اوروبا الغربية وأدى الى قيام ما عرف باسم”الشيوعية” الاوروبية” (Euro-communisme) التي تحولت الى حركة اصلاحية جديدة في الغرب . ثم لم تلبث ان استوعبت النظام “الاشتراكي” السوفييتي وردائفه في اوروبا الشرقية في منتصف الثمانينات قبل ان تطيح به في مطلع التسعينات من القرن العشرين، مثلما استوعبت قبله الحركات النقابية وحركات “الارهاب الثوري” وأزمة النظام الاقتصادي (1929) والتحدي النازي والفاشي . . الخ .
لكن ازمتها اليوم ليست قابلة للاستيعاب على نحو سريع وحاسم لأن الطور الجديد الذي ولجته الرأسمالية منذ عقدين، اعني طور العولمة، لا يسمح لها بأن تمتص ما كانت تستطيع امتصاصه من مشكلات ذاتية أو أزمات، حتى لا نقول ان منطق الرأسمالية العولمية نزاع الى إنتاج المشكلات والأزمات لا الى حلها . ان الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة واليابان، والانهيار المروع لقيمة الدولار، والارتفاع الدراماتيكي في أسعار النفط وفي اسعار المواد الغذائية، والعجز الفادح في التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين لمصلحة الأخيرة، والمديونية الأمريكية العالية التي الهبتها حروب بوش وإدارته والتناقضات المتزايدة بين الرأسماليات الكبرى الثلاث “الأمريكية والاوروبية واليابانية”، عوضت التناقض السابق بين النظامين الرأسمالي و”الاشتراكي”، ثم الخراب الاقتصادي الزاحف على بلدان الجنوب نتيجة فعل العولمة التفكيكي لبناها الهشة، والتدمير المنظم والعشوائي للبيئة الذي لا يبقي للحياة شروطاً في اصقاع عديدة من العالم، وحروب الطاقة الجشعة والظالمة التي تأتي على أوطان ودول، ليست حوادث سير عابرة أو مصادفات في مسيرة الرأسمالية العولمية، وانما هي جزء لا يتجزأ من نتائج أزمتها .
سبق لهذه الأزمة ان ولدت منذ نهاية القرن الماضي حركة احتجاجية عالمية عرفت باسم “حركة مناهضة العولمة” . وإذا كان الطابع النخبوي قد غلب على هذه الحركة وحد من قدرتها على الانتشار الأفقي وعلى توليد ديناميات اعتراضية اقوى وأفعل، فإن فتيل الغلاء الفاحش المتزايد ستسرع وتائر انتقالها الى حالة الحركة الشعبية العالمية في الأفق المنظور .