غبار أحداث أوسيتيا الجنوبية وجورجيا لايزال يلف العالم رغم هدوء ساحات القتال وكأنه إشارة جدية لتغيرات قادمة على مستوى العلاقات فيما بين الدول أو على مصائر دول بعينها.
العدوان الجورجي وصده من قبل الجيش الروسي غير الوضع الجيوسياسي في منطقة القوقاز بشكل نوعي لصالح روسيا. وطبيعي أن يسعى الروس حاليا لتكريس وتعزيز هذه النتائج باستخدام كل أدوات القانون الدولي والأدوات العسكرية السياسية التي تؤدي إلى استتباب الوضع في منطقة القوقاز. ويتوافق ذلك تماما ومصلحة سكان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. رئيس جنوب أوسيتيا قال بصراحة «سنطلب من قيادة الفيدرالية الروسية أن تقيم قاعدة عسكرية على أراضي أوسيتيا الجنوبية. فهنا يعيش مواطنون روس، ورسيا الاتحادية هي أهم ضمانة لهم». أميركا من جانبها ستسعى بكل الوسائل إلى أن تحول النصر العسكري والمعنوي الروسي إلى هزيمة دبلوماسية لروسيا.
الأربعاء الماضي وقعت واشنطن ووارسو معاهدة حول نصب قاعدة مضادات الصواريخ الأميركية على الأراضي البولندية. وتشكل هذه القاعدة العنصر الأخير والرئيس في النظام الأميركي للدفاعات المضادة للصواريخ في أوربا. ويعتبر هذا النظام ابن نظام «حرب النجوم» كما تسميه صحيفة «The Times». ورغم الحذر الذي كانت تبديه بولندا إزاء الإدارة الأميركية الحالية وتفضيلها انتظار وصول رئيس أميركي جديد إلا أن المراقبين يرون أن الانعطاف الحاد بالاتفاق في المفاوضات التي استمرت عاما ونصف مرتبط بتطور النزاع في جورجيا. وكرد على ذلك أعلنت روسيا وقف تعاونها العسكري مع الناتو. وقد أعلمت وزارة الخارجية الروسية وزارة الدفاع النرويجية بهذا القرار. ورغم أن الجميع يردد أن الحرب الباردة لن تعود إلا أن خطرها أصبح ماثلا أكثر من أي وقت منذ انتهائها في الثمانينات – التسعينات.
وترى صحيفة «لاستامبا – La Stampa» الإيطالية أن أكثر ما يفزع في التهديدات الروسية الأخيرة هي كلمات وزير الخارجية سيرغي لافروف بأن أعمال الأميركيين تدلل على رغبتهم في الخروج من معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، معبرة عن خشيتها أن ذلك قد يعني أن يكون الروس البادئين بإلغاء هذه الاتفاقية معلنين العودة إلى الحرب الباردة.
الأمر العملي على الأرض هو أن روسيا تعمل مع حلفائها على تكريس وتطوير النتائج التي أفرزتها الحرب الأخيرة. ولصد محاولات الغرب هز استقرار منطقة القوقاز لا بد من تنسيق الجهود بين موسكو، سوخومي وتسيخينفال، خصوصا وأن موسكو لن تقبل بغير الحل الذي يقرره سكان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وأكثر من ذلك فإنها ستسترشد به في نهجها في القوقاز، وهو ما أكده الرئيس الروسي ميدفيديف للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
أما أول الدول المرشحة لتغير وضعها الداخلي بعد الحرب فهي جورجيا التي تشير مصادر صحيفة «زافترا» الروسية من واشنطن (20 أغسطس/ آب) إلى أن الدوائر الأميركية تنظر بقلق إلى آفاق تفككها الفعلي، إما إلى قسم غربي وآخر شرقي، أو أن انقسامها سيجري على أساس الأقليات المكونة (سفانيتيا، كاخيتيا، إميريتيا.. إلخ). ويشار هنا أيضا إلى عودة أصلان أباشيدزه إلى أجاريا برفقة رئيس بلدية موسكو يوري لوجكوف، وإلى الموقف «غير المتسامح» الذي تتخذه السلطات التركية من ساكاشفيلي، وتصريحات أرمن جافاهيتي حول ضرورة إعلان الاستقلال الذاتي أو حتى الانضمام إلى أرمينيا. وتحت ضغط احتمال هذه المتغيرات وصلت الدوائر الأميركية إلى استنتاج يفيد بأنه إذا كان من المحتم إعادة تشكيل جيوسياسية لإقليم القوقاز مع استقالة ساكاشفيلي وعلى حساب جورجيا فإن ذلك في كل الأحوال يجب أن يتم بمشاركة نشطة من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
وتخشى تلك الدوائر أيضا من انعكاسات الوضع الناشئ على أوكرانيا. وترى بأنه لا يجب السماح بتطور الحوادث في أوكرانيا حسب «السيناريو الأوسيتي». لقد احتدم الصراع بين الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو ورئيسة وزرائه يوليا تيموشينكو حول الموقف من أسطول البحر الأسود الروسي في ستافروبول. ويبدو أن مطالبة الأول بتغيير الوضع القانوني للأسطول في مقابل إصرار الثانية على بقاء ذلك الوضع، وكذلك تهم خيانة الدولة الموجهة ضد تيموشينكو مرتبطتان قبل كل شيء بفضيحة اختفاء 100 مليون دولار دفعت مقابل تزويد جورجيا بشحنة أسلحة، ما يهدد آفاق إعادة انتخاب يوشينكو رئيسا للدولة العام ,2009 وحدا به لإطلاق مكيدة ضد منافسته القوية تيموشينكو.
ورغم الخلافات الحادة بين بيلاروسيا وروسيا حول إمدادات الغاز الروسية، إلا أن حوادث جورجيا يحتمل أن تعجل من اتفاق البلدين حول القضايا الدفاعية والتعاون الاستراتيجي بينهما.
ولا يبدو تسريع استقالة الرئيس الباكستاني برويز مشرف بعيدا عن ضغط أحداث جورجيا. فقد جاءت تحت ضغط شديد من قبل المعارضة السياسية الموالية لواشنطن والمدعومة مباشرة من عمليات القطاعات العسكرية الأميركية المتواجدة في الأراضي الباكستانية. وحسب وجهة نظر مراقبين من دلهي فإن واشنطن تنوي تقديم هدية جيوسياسية كبرى للهند مؤكدة بذلك عزمها على السير في نهج الشراكة الاستراتيجية معها في مواجهة الصين. وفي إيران وحتى وإن بدا إطلاق الصاروخ الإيراني الحامل لنموذج قمر فضائي صناعي «مصادفة بحتة» مع احتداد الوضع السياسي في القوقاز، إلا أن من شأنها في هذا الوقت بالذات استعراض القدرة التقنية العسكرية لطهران التي تصبح هدفا أبعد فأبعد منالا للهجوم من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل، وأن إيران يمكن أن تعول أكثر على التعاون مع روسيا في المستقبل.
وتشكل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا على إثر أحداث جورجيا معلما بارزا في التغيرات النوعية للوضع الروسي في الشرق الأوسط. الموقع الإلكتروني الإسرائيلي DEBKAfile المتخصص في موضوعات الأسلحة ذهب حتى إلى القول إن الجانب الروسي «ينظر في إمكانية نصب صواريخ نووبة في سوريا» وتزويدها بصواريخ «إسكندر» القادرة على حمل رؤوس نووية بقطر إصابة يصل إلى 200 كلم كتعويض عن نظام الدفاعات المضادة للصواريخ الأميركي في بولندا ومقابل الدعم الأميركي الإسرائيلي النشط لجورجيا.
إذا كان يراد لجورجيا أن تكون سكينا في خاصرة روسيا، فالذي يبدو الآن أن أحداث القوقاز ستغير كثيرا في العلاقات والتوازنات الدولية وفي مصائر دول بعينها.
صحيفة الوقت
25 اغسطس 2008