لا تستطيع الأممُ الشرقية أن تبنى حداثة وصناعة بأسلوب الغرب، فلها طريقها الخاص على مدى العقود الراهنة. وهذا أمرٌ لا يفهمه الغربيون الذين يريدون تطوراً على مقاسهم، وهو مقاسٌ غيرُ موجود في مستوى التطورين الاقتصادي والاجتماعي الشرقيين. لقد قامت ما سمُيت ثورة أكتوبر الاشتراكية لتشكل رأسماليةً حكومية جبارة، تخلق نهضةً كبرى، وراح الجيشُ الروسي يتسلم قيادتها، فكان زعماؤها السياسيون هم المسيطرون على الجيش، بدءًا من لينين ومروراً بتروتسكي قائد الجيش الذي سحق التدخلات الأجنبية والقوى المناوئة، ثم بستالين القائد العسكري والسياسي الشمولي الذي حكم بالحديد والنار ليشكل دولة نهضوية كبرى.
ثم أدركت القوى المتنفذةُ في الجيش والمخابرات السوفيتية إن خيار أمبراطورية الاتحاد السوفيتي صار مكلفاً، بسبب الصرف الهائل على التجارب الوطنية المحاربة للاستعمار، وترهل القطاع العام وضعف تطوره، فكان دور الإصلاحيين بدءًا من خروتشوف الذي سحقته البيروقراطية، حتى ظهر أندربوف الذي فتح الثغرة في تحكم البيروقراطيين، وجاء جورباتشوف مُصعّداً من أجهزة الجيش والمخابرات ليضع حداً لأمبراطورية الاتحاد السوفيتي المكلفة على الروس عماد تلك الأمبراطورية. لكن جورباتشوف كانت له أحلامه الإنسانية الإشتراكية حينذاك، فتم تصعيد يلستين المقوض لسيطرة البيروقراطية الروسية ومطلق الرأسمالية الخاصة بقوة كبيرة. وهكذا فإن الأجهزة العسكرية والمخابراتية الحاكمة صعّدت رجلاً مجهولاً تماماً هو الرئيس بوتين، الذي لم يكن له أي علاقة كبيرة بالحزب الشيوعي وتجاربه، وهنا ظهرتْ مقدرةُ الأجهزةِ العسكرية الروسية على قيادة روسيا في عالم مختلف، وتصفية الجمود (الاشتراكي) ورفض أن يدفع الشعب الروسي تكاليف البذخ السياسي في الدول الشرقية وما سمي حينها دول حركة التحرر الوطني، واعتمدت على الفواتير الاقتصادية الحقيقية وغدت التجارة ومعاييرها هي السائدة وصارت المساعدات والصرف على المناضلين من ذمة الماضي المالية. وقد ظنت الدولُ الغربية أن روسيا تم احتواؤها في ظل النظام الغربي الديمقراطي الرأسمالي، وكما قلنا فإن رؤى الغربيين السائدة المركزية تمنعهم من رؤية ان الأمم الشرقية لها مسار مختلف عنهم، بحكم مستوى التطور الاقتصادي، لا بسبب الدم والعرق والدين، وأن جهازَ الدولة سيلعبُ دوراً مركزياً كبيراً خلال العقود الراهنة والتالية، ومن هنا فإن الدولة الروسية الراهنة هي دولة رأسمالية ديمقراطية بمعايير الشرق، أي يقوم جهازُ الدولة بلعب دور اقتصادي كبير فيها، إضافة طبعاً لدوره السياسي ودوره العسكري. وبالتالي فإن له شهية كبيرة تجاه الثروات البكر خاصة النفط والغاز والماس والذهب، وهي هذه الثروات التي لا تحتاج إلى تقدم صناعي كبير. وديمقراطيته الرأسمالية لا تمنعه من استخدام أجهزة العسكر والمخابرات، وهي سمة مشتركة في كل الرأسماليات الغربية والشرقية، خاصة في مناطق الثروات كبحري قزوين والأسود، وهي أقل تطوراً من الرأسمالية اليابانية ذات المقدرات التكنولوجية المتقدمة، نظراً لاعتمادها على اقتصاد السوق بشكل مطول، أو من الرأسمالية الصينية (الشيوعية) ذات اليد العاملة الرخيصة الهائلة. لكنه يملك تكنولوجيا السلاح التي هيأته لها تجربة الاتحاد السوفيتي، والسلاح غدا سلعته الكبرى الثانية بعد النفط ومشتقاته، فهو عملاق يقف فوق رجلين ضعيفتين تقنياً. إن النهم للمواد الأولية الثمينة والتجارة بالسلاح كلاهما تجعل روسيا الاتحادية موقع شك وارتياب وتخوف، لأن هذه تجارة خطرة، وتعجز روسيا عن أن تكون دولة متحضرة بمعايير الغرب الرأسمالي، فتلجأ لأساليب هتلر وستالين مجدداً. فهي تعجز عن استخدام التقنية لكي تخترق الأسواق فتعتمد على الأساليب السياسية وبيع السلاح لدول شرقية دكتاتورية مقلقة للسلام. إن جهاز الدولة العسكري الهائل الذي كونته في الحقبة السوفيتية الماضية غير قادرة على إعادته لحجمه الطبيعي الموازي لمواردها، فتروح تستغلهُ في الوثوب العسكري أو في تصدير السلاح، ولا يسعفها عددُ سكانها ولا عراقة تقنيتها المدنية. وهذا ما يداعب أحلامُ الدول الاستبدادية الشرقية التي ترى في مثل الجموح الروسي فرصةً لبقاء أنظمتها، وحفزاً لمغامراتها، وبقاءَ شموليتها، وعجزها عن تطوير مهن الشعب وتحديثها. ولكن إذا لم تعتمد روسيا على تطوير قواها الداخلية المدنية وتضع حداً لهيمنة الجيش، ولم تطور قوى العمل والإنتاج والاختراع فإنها سوف تتمزق ولن تفقد جمهورياتها الآسيوية (الصديقة) بل حتى أقاليمها الروسية.
صحيفة اخبار الخليج
25 اغسطس 2008