ذكرنا في المقال السابق أن جولة الدوحة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في إطار منظمة التجارة العالمية التي انطلقت في العاصمة القطرية في نوفمبر 2001 (بعد شهرين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن) بعد محاولتين فاشلتين لإطلاق أول جولة مفاوضات في إطار المنظمة منذ إنشائها في عام 1995 (الجولات الثمان الأولى جرت في إطار الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية ‘جات’) إحداهما في سياتل الأمريكية وكان دوي فشلها مدوياً - إن جولة الدوحة ما كانت لتُطلق لولا الموقف العاطفي التآزري الدولي مع الولايات المتحدة حينها ولولا أن أُغريبت الدول النامية بأن هذه الجولة، على خلاف جولة أوروغواي السابقة، ستوجه لخدمة التنمية في الدول النامية، حتى سميت بجولة الدوحة للتنمية (Doha Development Round-DDR).
وقد كان مقرراً في الأصل للانتهاء من هذه الجولة الجديدة في غضون سنتين، على اعتبار أن الدول النامية تشكل غالبية أعضاء المنظمة وهي سترحب وستسهل بالتالي المستوى الجديد من التحرير الاقتصادي الذي يفترض أن تقدم عليه الدول المتقدمة لتمكين الدول النامية من النفاذ إلى أسواقها بما يحقق هدف الجولة التنموي.
ولكن تبين أن وعد التنمية لم يكن سوى طعم صيد، فلم تبد الدول المتقدمة المرونة الموعودة لجعل الجولة جولة تنمية، فكان أن طال أمدها إلى اليوم.
وجاءت المحاولة الأخيرة لإحيائها، من خلال مفاوضات ماراثونية في مقر المنظمة في جنيف امتدت لتسعة أيام بلياليها في أطول اجتماع للمنظمة على المستوى الوزاري منذ إنشائها - جاءت تلك المحاولة ووقائع جلسات المفاوضات لتعكس حقيقة أن جولة الدوحة لا تختلف عن باقي الجولات السابقة في سياقها وجوهرها من حيث هي جولة صراع مصالح بين الدول المتقدمة والدول النامية لانتزاع أقصى ما يمكن انتزاعه الواحد من الآخر من تنازلات في النفاذ إلى سوق الآخر.
بدليل أن الطرفين نجحا في تحقيق توافق تبادلي بالنسبة لثمانية عشر موضوعاً من أصل 20 اقترحها مدير عام المنظمة باسكال لامي لتحقيق الاختراق الحاسم والمنتظر في جولة الدوحة، إلا أنهما تعثرا عند النقطة التاسعة عشرة المتعلقة بإنشاء آلية لحماية مزارعي الدول النامية من سيل الواردات الزراعية من الدول الغنية في حال حرر قطاعها الزراعي (حسب الاتفاق)، وعند النقطة 20 المتعلقة بالرسوم الجمركية المفروضة على واردات القطن.
لاشك أن الدول النامية وهي تفاوض في جولة الدوحة، تتذكر كيف أدى عدم التكافؤ في جولة أوروغواي إلى نجاح الدول الغنية في عدم إلزام نفسها بإلغاء الدعم الزراعي أو خفضه على الأقل، في ذات الوقت الذي تمكنت من إلزام الدول الفقيرة بحزمة قواعد وقيود حماية حقوق الملكية. ولولا أن تغيرت قواعد اللعبة في منظمة التجارة العالمية لتكرر سيناريو جولة أوروغواي في جولة الدوحة. حيث كشرت الدول الغنية مرة أخرى عن أنيابها جشعاً لانتزاع تنازلات من الدول النامية من دون أن تقدم ما يوازيها من جانبها. الولايات المتحدة في الاجتماع الماراثوني الأخير رفضت إحداث خفض رئيسي في دعمها للقطن الأمريكي استجابة لطلب الدول الفقيرة المصدرة للقطن في غرب أفريقيا.
أما الحكومة الفرنسية فقد هددت منذ بداية جولة المفاوضات الأخيرة في جنيف بأنها لن توقع اتفاق جولة الدوحة إذا لم يتضمن ما يوفر ‘الحماية لمصالح الصناعة الأوروبية في وجه الدول الناشئة’.
وكما هو واضح فإن هذه الدول، فرنسا والاتحاد الأوروبي بمجمله، والولايات المتحدة الأمريكية لا تريد التسليم بحقيقية أن الوضع في منظمة التجارة العالمية لم يعد كما كان إبان ‘الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية’، وأن الصين والهند لهما نفس القوة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة داخل المنظمة. والولايات المتحدة تتعمد القفز على حقيقة أن عدد المزارعين الذين تدافع عنهم (بالدعومات وبالرسوم الجمركية الحمائية) لا يتجاوز عددهم المليون مزارع مقابل 200 مليون مزارع في الهند لا ترى واشنطن غضاضة في التضحية بمصالحهم في سبيل ‘حرية التجارة’.
هذه العقليات المزدوجة المعايير (حمائية داخل حدودها وساعية لحرية التجارة في أسواق الآخرين)، وهي عقليات عتيقة النظرة بالنسبة لمفاهيم التوازن الاقتصادي والاجتماعي العالمية الجديدة، هي المسئولة عن فشل اجتماع جنيف الأخير، والذي يمكن أن تتسبب مجموعة من الظروف غير المواتية (اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، وتجديد المفوضية الأوروبية نهاية العام القادم، وانتهاء ولاية باسكال لامي كمدير عام لمنظمة التجارة العالمية في سبتمبر 2009) - أن تتسبب في تنزيل قيمة ما اتفق عليه والذي يربو على نسبة تسعين بالمائة من الاتفاق، وتأجيل الاتفاق إلى سنة 2010 التي يقال إنها ستشهد بداية سيناريو أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
صحيفة الوطن
24 اغسطس 2008