لا تتصف مرتفعات القوقاز بجمال طبيعي أخاذ فحسب كإحدى أجمل المناطق الغرّة في العالم، إن لم تكن الأجمل على الإطلاق، بل شكلت على الدوام نقطة ساخنة بين الشرق والغرب، وزادت الآن أهميتها الجيوسياسية للمخطّطين الغربيين عامة والأميركيين خاصة فيما يتعلق بالخطط الإستراتيجية لحلف شمال الأطلسي من التمدّد شرقا للوصول إلى خاصرة روسيا وحصارها من المنطقة الجيوستراتيجية الأهم، الجنوب القوقازي.
من هنا تبدو الأيام الخمسة التي هزّت القوقاز في حرب طاحنة وهزّت معها أركان العلاقات الدولية بين الشرق الروسي والغرب الأميركي/الأطلسي/الأوروبي قد شكلت نقطة تحول تاريخية، وحداً فاصلاً بين مرحلتين. مرحلة اتسمت فيها روسيا الجريحة بضعفٍ مشهود، على اثر تفكك الاتحاد السوفيتي في مستهل العقد الأخير من القرن الماضي، وروسيا أخرى قادمة – لا محالة- لتأخذ مكانها الشاغر كثاني قطب دوليّ على خريطة العالم والنّدّ الوحيد الذي سيكون بمقدوره، أكثر من غيره، الحدّ أو التقليل(على أقل تقدير) من الهيمنة الأميركية على العالم، بُغية استعادة التوازن الدولي المفقود.
وما اندلاع الهجوم الجيورجي المباغت على شعب اوسيتيا الجنوبية الصغير (سبعين ألف نسمة) وقوات حفظ السلام الدولية الروسية، العاملة تحت إمرة الأمم المتحدة، سوى عملية محبوكة في الدوائر الأطلسية والاميركية العليا لتكون بمثابة اختبارٍ ومِحَكٍّ عمليّ لمدى القدرة الروسية واستجابتها الفعلية لخطط التمدّد الأطلسي تلك، حيث وجد الغرب ضالته في شخص تلميذه ومريده المخلص والطموح، الرئيس الجيورجي ‘ميخائيل سَآكاشفيلّي’ بطل ما يمكن تسميته بـ ‘الديمقراطية الجيورجية التسلطية’.
لأول مرة يحدث هذا بين شعبين قريبين وجارين من دول جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وذلك بقيام جهة أقوى بمحاولة تطهير عرقيّ لشعب أصغر! على انه ليس واضحا بالضبط سبب اختيار توقيت المجابهة قبل يوم واحد من افتتاح اوليمبياد بكين، عاصمة الدولة المضيفة الصين، التي لابد أنها امتعضت من جرّاء هذه الحرب، وان لم تأتِ بأي رد فعل ملحوظ. في اعتقادنا المتواضع بان التوقيت جاء بسبب انشغال الرأي العام العالمي بهذا الحدث الرياضي العالمي الكبير. وقد تكون خطة التوقيت تضمنت – فيما تضمنت – افتعال شرخٍ نفسيّ للنجاح الصيني في استضافته لأحد أفضل دورات الاولمبياد، ومحاولة التأثير النفسيّ السلبيّ على لاعبي دول معينة!
لعله من المفيد محاولة الوقوف على أهم نتائج حساب الربح والخسارة المتأتية من حرب القوقاز الأخيرة على المدى القصير والمتوسط، التي يمكن تلخيصها في الآتي:
أولا: تسريع عملية تركيب منظومة الدرع الصاروخي في بولندة، والتوقع الوشيك لمثيلتها في جمهورية التشيك بالإضافة إلى إمكانية الانضمام الأسرع لكل من أوكرانيا وجيورجيا لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وهي نقطة ليست في صالح روسيا وان كانت العاقبة النهائية ستفضي لنفس النتيجة.
ثانيا: احتمال انسلاخ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من خريطة جيورجيا إذا اعترفت روسيا باستقلالهما، وهو بالطبع قد تشكل نقطة لصالح روسيا.
ثالثا: خسارة روسيا لرساميل تقدر بـسبعة مليارات دولار بالإضافة إلى أكثر من نصف مليار دولار الخسائر الحربية الأخيرة بجانب الخسائر البشرية.
رابعا: العودة الأقوى لروسيا لملف مشكلة الشرق الأوسط، كلاعب أساس في هذه المنطقة التي تعاني منها أميركا من مشاكل عديدة في أكثر من ملف وبلد.
خامسا: عودة المصداقية للموقف الروسي الحازم إيذانا بالدور الروسي المرتقب على الصعيد الدولي والإقليمي، مما قد يعزز دورها الاقتصادي والسياسي مع البلدان العربية والمشرقية.
سادسا: قد يؤدي الوضع الحالي في تغيير ما، في تركيبة النخبة السياسية الحاكمة في جيورجيا نفسها، الأمر الذي قد يطيح بالرئيس الجيورجي الحالي.
سابعاً: من مفارقات هذه الحرب أنها ستقوي الموقف الإيراني والسوري، بينما ستضعف الموقف الإسرائيلي، التي ساعدت جورجيا بتكنولوجيا الأسلحة المتطورة.
على أن روسيا، التي بدت خاسرة أو في موقف أضعف من ناحية حرب الدعاية والإعلام الغربيين، وان ربحت عسكريا على الأرض، في حاجة ماسة إلى تغيير كبير ونوعيّ في إستراتيجيتها التنموية الشاملة، وذلك بخلق نموذج اقتصادي ناجح ينطلق أساسا من استثمار حقول سيبيريا المتعددة الموارد، ذي الكلفة العالية وعدم تبدّد مصادرها الخام في التسويق والربح السريع. ومد جسور التعاون المتبادل مع العديد من دول المنطقة التي ضاقت ذرعا من التسلط الأميركي والبحث عن شراكة استراتيجية مع مجموعة من الدول المشرقية والأسيوية، على رأسها الصين بدل الدخول في تكتيكات خاسرة كالتحالف مع سوريا أو إيران بالإضافة إلى الضرورة القصوى لتحسين علاقتها مع أوكرانيا بالذات واستحداث سُبل جديدة للتعامل مع الدول السوفيتية السابقة بجانب مدّ النفوذ للحديقة الخلفية الأميركية، أي دول أميركا اللاتينية.
أصبح واضحاُ الآن أن خطة الهجوم على اوسيتيا الجنوبية ومحاولة استعادتها بالقوة لجيورجيا الأم كانت موجودة مسبقاُ، وجرت بضوء أخضر أميركي وبتعاون وتسليح إسرائيلي / أوكراني/ أطلسي. ولكن بدا أكثر وضوحا من أن القوى الغربية، التي انجرت خلف الرئيس الجيورجي المهوس في عدائه للروس، لم تتوقع أبداً من أن يكون رد الفعل الروسي بهذا الحزم. ولابد أن الغرب قد اقتنع الآن خطورة التعامل مع شخصٍ مصابٍ بمرض الرهّاب الشخصيّ الانفعاليّ، حسب العلماء الروس النفسانيين الذين أجروا تحليلات نفسية دقيقة لوضع شخصيته غير المتوازنة.
ماذا بعد هذه الحرب؟ يعنى قبل كل شيء من أن مرحلة جديدة قد بدأت تتجلّى في التاريخ المعاصر( 0 8/ 0 8/0 8) وهي مرحلة أفول أو بداية أفولٍ لمرحلة القطبية الواحدة المهيمنة، ووقوفنا على مشارف مرحلة تعدد الأقطاب التي لم تتوضح معالمها بعد، كونها مرحلة ضبابية، حيث لم تطل بعد رؤوس تلك الأقطاب المتعددة وخاصة أن القطب الأوروبي الغربي مازال أسير الهيمنة الأميركية.
صحيفة الوقت
24 اغسطس 2008