لم يكن مستغربا ان تثير وثيقة التفاهم التي وقعها حزب الله «الشيعي« مع اطراف سلفية سنية في لبنان كل هذه ردود الفعل المتواصلة على الساحتين السياسية والدينية والمتفاوتة بين الترحيب الشديد، والترحيب بتحفظ، والانتقاد المعتدل اللهجة، والادانة الشديدة اللهجة. فالوثيقة بقدر ما تنطوي على ايجابيات تبتغي تخفيف حدة الاحتقان الطائفي والمذهبي في لبنان، وبضمنه الشيعي – السني، بقدر ما تنطوي أيضا على سلبيات عديدة قد تسهم من دون قصد في زيادة وتكريس الحساسيات المذهبية بدلا من ازالتها: أولا: ان الوثيقة ورغم كل ما قيل انه جرى اطلاع واحاطة الاطراف الاخرى غير الموقعة في كلا الجانبين فانه من الواضح ان اعلانها جاء مفاجئا للجميع وان تلك الاطراف لم تشرك ولم تحط بما فيه الكفاية في التحضيرات التي تمت للوثيقة.
ثانيا: ان أي قراءة تمحيصية متأنية لنصوص بنود الوثيقة يخرج المرء باستنتاج لا يقبل اللبس باختلاط وتشابك الابعاد السياسية بالابعاد المذهبية فأنت هنا لا تعرف هل أنت إزاء وثيقة معنية حصرا بالتقارب المذهبي – المذهبي و هذا من اختصاص المراجع الدينية الكبار في كلتا الطائفتين؟ أم انت إزاء وثيقة سياسية للتقارب السياسي والمذهبي معا؟ وهذا من اختصاص الرموز والمراجع الفقهية بالتشارك مع الرموز والقوى السياسية في كلا المذهبين، وبالتالي فإذا كانت الوثيقة معنية حصرا بالتقارب المذهبي الديني بين الشيعة والتيار السلفي فمن قال ان حزب الله، وهو حزب سياسي، هو الممثل الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية برمتها فقهيا ودينيا؟ وإذا كانت الوثيقة معنية بالتقارب السياسي والمذهبي معا، نظرا لتداخل الابعاد الدينية والسياسية للصراع، فمن قال ان حزب الله هو الممثل الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية دينيا وسياسيا معاً؟ وما ينطبق من جميع هذه التساؤلات المثارة على حزب الله في الصفة التمثيلية ينسحب تماما على الاطراف السلفية السنية التي وقعت على الوثيقة، فمهما كان وزن هذه الاطراف الا انها بانفرادها بالصفة التمثيلية للتيار السلفي والطائفة السنية أثارت ردود فعل غاضبة أو متحفظة داخل الطائفة السنية بكل ألوان طيفها من مراجع فقهية ورموز دينية وقوى سياسية على رأسها تيار الحريري «المستقبل«. ثالثا: جاء في البند الاول «انطلاقا من حرمة دم المسلم فاننا نحرم وندين أي اعتداء من مجموعة مسلمة على أي مجموعة مسلمة«.. وبالرغم من ايجابية التأكيد على هذا المبدأ الديني الاسلامي، فانه لم يكن موفقا من دون ان يكون معطوفا بالتأكيد على حرمة دماء اللبنانيين جميعا من دون استثناء على اختلاف طوائفهم، ذلك بأن الصراع الدموي الذي جرى في مايو الماضي بعد دخول مقاتلي حزب الله المنطقة الغربية من بيروت انما جرى على خلفية تجاذبات واحتقانات سياسية شديدة بين طرفي صراع لكل منهما تحالفاته مع قوى سياسية وطائفية أخرى شاركت أو استدرجت لذات الصراع، ومن ثم فان نص البند المذكور وبذلك الشكل الذي ظهر عليه يعطي انطباعا، ولو من دون قصد، وكأن دماء الطوائف اللبنانية الاخرى الشريكة قواها السياسية في ذات الصراع مستباحة، وان الحرمة هي فقط لدماء الطوائف الاسلامية. رابعا: نص البند الثاني على الامتناع عن تحريض وتهييج العوام لمنع الفتنة.. والسؤال هنا: من الذي يهيج العوام ويذكي الفتنة؟ هل هي الاطراف الموقعة على الوثيقة؟ وهنا يمكن فهم التزامها بهذا البند وتوقيعها عليه ام انه في الصراع السياسي الديني الطائفي اللبناني المعقد والمتعدد والمتشابك الابعاد محليا واقليميا ودوليا ثمة قوى عديدة تلعب ادوارا متفاوتة في اذكاء الفتنة؟ وإذا سلمنا بدور قوى واطراف عديدة في ذلك فما سلطة اصحاب الوثيقة (حزب الله واطراف سلفية) لتفعيل هذا البند عليهم، وعلى الاخص القوى الدينية والسياسية في كلتا الطائفتين؟ خامسا: نص البند الرابع على التعاون المشترك للقضاء على «الفكر التكفيري« في كلتا الطائفتين وهنا ايضا يثار التساؤل السابق: من المسؤول عن القضاء على الفكر التكفيري لدى الطائفتين هل هي الاطراف الموقعة على الوثيقة؟ أم أن هناك اطرافا اخرى ينبغي التعاون معها لكنها استبعدت في التحضير وفي التوقيع مما اثار سخطها؟ سادسا: نص البند السادس على تشكيل لجنة من كبار مشايخ الطرفين الموقعين للبحث في النقاط الخلافية عند الطائفة الشيعية والطائفة السنية لحصرها وعدم انتقالها للشارع، وهذا النص يعني ضمنيا وبوضوح وصاية حزب الله الكاملة على الطائفة الشيعية اللبنانية باعتباره الوكيل المفوض عنها في حصر النقاط الخلافية مع السنة، كما يعنى ضمنيا وصاية الاطراف السلفية الموقعة على الوثيقة باعتبارها الوكيلة والممثلة عن الطائفة السنية في بحث وحصر الخلاف مع الطائفة الشيعية! وهكذا فلا غرابة بناء على كل هذه الاعتبارات ان تثير الوثيقة الزوابع التي اثارتها لدى القوى السياسية والدينية المستبعدة وهي اطراف في الصراع، ولا عجب أيضا إذا ما عجزت في ان تترجم بنودها «الجميلة« على ارض الواقع مادام قد اختلطت فيها وتداخلت الابعاد الدينية والطائفية بالابعاد السياسية، والتكتيكات الحزبية بفنون الجمباز السياسي التي يجيدها ببراعة اقوى الاطراف الموقعة على الوثيقة.
صحيفة اخبار الخليج
24 اغسطس 2008