ارتجف قبر جوزيف ستالين وهو يستمع إلى القاذفات الروسية تدك تبليسي عاصمة جمهورية جورجيا وبعض المواقع الحيوية أرضا وجوا، بما فيها القوات العسكرية الجورجية في اوسيتيا الجنوبية. في تلك اللحظة نهض ستالين من غفوته العميقة، وتذكر انه لا يعرف هذا العالم الذي يدور حوله، ولا يستوعب كل ما يدور في تلك اللحظة، فهو نتاج مرحلة قيصرية وإمبراطورية تحكمت في بلاده، كجزء من توابع تلك الإمبراطورية الروسية، وكل ما كان يفهمه هو ذلك الإرث البلشفي وهو شخص ملاحق وابن المنافي في سيبيريا وسجونها، وشخص عاش باسم مستعار بعد أن تخلى عن اسمه الجورجي »دزاكاشفيلي« نتيجة عمله الحزبي السري مستعينا بستالين، الذي سيكون اسمه للأبد حتى آخر يوم من حياته. وعندما التحق عام ٨٩٨١ بحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي، تحول ذلك الفتى القومي النزعة إلى شخص أممي، يتنقل بين الجمهوريات والملحقيات التابعة للقيصرية، كمنظم ومحرض عمالي وسياسي نشط، وكاتب وسياسي مثقف داخل كوادر الحزب وقياداته.
ومع انتصار الثورة البلشفية سيصبح دزاكاشفيلي الجورجي روسيا وامميا أكثر من الأممية ذاتها، وسيمارس ألوانا شتى من المواقف العصبية إزاء الاثنيات والأعراق المختلفة في منطقة القوقاز، بل وسيضع بصماته على كل تلك المقترحات التي تدعو إلى تحريك السكان ونقلهم من مناطق عدة بهدف إذابة الجوانب القومية وخلق مجتمع واحد أكثر اهتماما بما يسمى بالإنسان السوفيتي الجديد، مواطن الوطن الاشتراكي، وهذا ما يسعى الاتحاد الأوروبي لفعله بخلق ما يسمى »المواطن الأوروبي« أو أوروبة شعوب وثقافات تلك الدول في هيكلية وبنيان سياسي واحد، معتمدا على التعددية الثقافية العرقية، بشرط أن تصبح المواطنة الجديدة للكيان الأرقى والاهم هو الاتحاد الأوروبي، كما هو اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، والذي تمت انطلاقته الأولى عام ٢٢٩١، ثم تواصلت حتى الحرب العالمية الثانية، عندما التحقت دول البلطيق بالمنظومة الاشتراكية. في فضاء أممي تجاوز الأفق القومي والشوفينيات العرقية والعصبيات الدينية.
حاول ستالين كخليفة إلى لينين المريض تحقيق ما يدور في رأسه، فتولى مهمات إدارة الحزب منذ عام ٢٢٩١ حتى وفاته ٣٥٩١، وبذلك البقاء الطويل في سدة السلطة والحزب، اتضحت كل ممارسات وسلبيات ستالين في محاولات الصهر والإذابة القومية للشعوب تحت إطار أرقى ومن أجل حياة أفضل. ونحن هنا لا نناقش مدى فاعلية ومبدئية وصحة تلك التوجهات وإنما في نتائجها، إذ بقت تلك الاثنيات والأقليات القومية، تمارس نهجين متناقضين، معلن وخفي، ففي داخل بنية مغلقة واصلت تلك الكيانات ثقافتها ونهجها، فيما عاشت علنا نمطا رسميا في ثقافة المدرسة والمؤسسة والحزب وكل منظمات المجتمع المدني.
ذلك التناقض الداخلي تم استثماره وتغذيته من القوى الخارجية أيضا، بحيث تم تحريض تلك القوميات والأقليات بنعرة أن السلطة السوفيتية تحاول أن تصهركم داخل قوميات اكبر ومهيمنة كالقومية الروسية والسلطة الاشتراكية »المروسنة« وفق التعبير الانجليزي، القادم من خلف أدراج وزارة الخارجية ومراكز البحوث الاستراتيجية، حيث تم النفخ في داخل تلك التجمعات والدفع بها للمواجهات والصدام، والتي كانت تبرز مع أية أخطاء وممارسات من بعض الشخصيات، الحزبية المتعصبة والممنهجة على فكر التصلب والجمود العقائدي يوم ذاك، وكان »بطل« تلك المرحلة ستالين نفسه والذي أحاطه مجموعة من الرفاق، ولكنهم لم يسلموا أنفسهم من الاغتيالات والتصفيات والمنافي والسجون.
ما فعله ستالين من فلسفة ديمغرافية وسكانية وثقافية، لم تنجح ليس لكونها مستحيلة وحسب بالطرق الآلية والتعسفية، وإنما لكونها لم تترك لعنصر الوقت والخيارات السلمية الديمقراطية في تذويب كل سلبيات العلاقات القومية بين شعوب عاشت تحت النير القيصري وثقافته، وتلمست مدى العسف الروسي لقرون، ما خلق حاجزا نفسيا عميقا بين المركز الروسي للسلطة الفتية والأطراف القومية المتنوعة، وان رفعت الثورة البلشفية شعارات المساواة بين القوميات في وطن ونظام جديد. في تلك الأجواء الداخلية والخارجية ستصبح رؤية ستالين أكثر هيمنة إلى درجة بروز ما يسمى بالظاهرة »الستالينية« في مؤسسات الدولة والمجتمع وفي الحياة الحزبية الداخلية. وقد كان ستالين احد أطراف التشدد والصراع مع القيادة الصينية حول المسائل الاستراتيجية والتكتيكية والتنظيمية »للكومنترن«، خاصة وان ستالين كان يصر على أن تكون موسكو معنية بإدارة وتنظيم تلك الأممية، من كونها تقدم للكومنترن كل التسهيلات الفنية والمالية والسياسية. بدأ الطلاق بين موسكو وبكين بستالين وانتهى بموته.
ومع مؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي تم على يد خرتشوف الأمين العام الجديد، إعادة العلاقات الدافئة مع »الرفاق الصينيين« والتي سرعان ما انهارت وتوترت ولكنها لم تبلغ حجم القطيعة والعداء كما هو الزمن الستاليني، فقد أوصمت قيادة موسكو قيادة بكين »بالقوى التحريفية والانتهازية« ما دفع بالصينيين أن يصموا السوفييت والحزب والنظام »بالامبريالية الاشتراكية«. ترى كيف ستكون محنة ستالين اليوم لو عاش، كما هي حياة ميخائيل غورباتشوف، الذي يشاهد عن كثب، كيف تلتقي جمهوريات الوطن الواحد بتسابق محموم وأنانية رياضية، فالجميع يمثلون بلدانا وشعوبا ودولا مختلفة، وستصبح أزمة ستالين »الاممي« أعمق عندما يرى الجورجيين أبناء وطنه »يحصدون« ميداليات ذهبية من رفاقهم الروس، بينما »تحصد« الدبابات الروسية الجورجيين في اوستيا الجنوبية، وتدمر الطائرات الروسية مواقع حيوية في جورجيا. لسنا بحاجة لتفسيرات ستالينية اليوم، فالصراع الداخلي والخارجي على مناطق النفوذ بات هو الأكثر وضوحا، ولن تستطع الروح النضالية للماضي امتصاص الكراهية المعلنة أو إيقاف حقن الدم الغزير، بين شعبين قاتلا بالأمس بكل ضراوة ومؤازرة الفاشية المدمرة عشية الحرب!!
صحيفة الايام
24 اغسطس 2008