تتشكل حركة التطرف العنيفة على خلفية تشجيع دائم من قبل أطراف لم تسهم في العملية التحولية السياسية الراهنة. وهي تغذي هذه العملية على الإحباط المنتشر بين بعض الأوساط الشعبية المأزومة كما هي الحال خلال السنوات الماضية، ووقفت حركة الوسط السياسية الكبيرة المكونة من بعض القوى الحكومية والشعبية دون السيطرة المستمرة على مشروع التحول هذا، بسبب ضعف الأداء الحكومي وعدم تنفيذ بعض المشروعات الكبرى التي وعُد الناسُ بها كالمدينة الشمالية، ودون القضاء الحاسم على البطالة، وعدم السيطرة على انفلات الأسعار وتدني الأجور وغيرها من المشكلات الجماهيرية الكبيرة. وبدا من الواضح ان المعارضة الوطنية واليسارية خصوصاً وجدت نفسها خارج اللعبة السياسية التي تمركزت على النشاط البرلماني فتغلغل فيها يأسٌ سياسي عميق، رغم النشاط الظاهري المركز على
الدعوة والتأثير الفكري التنويري والنقدي المفيد. وتصورت في باطنها أنها خارج اللعبة السياسية تماماً، وأن على الحكومة والدينيين أن ينفردوا بالساحة، ثم تكشف الوضع بأن الجانبين الحكومي والديني سواء أكان معارضاً أم موالياً، لا يملكان الرؤية المتسعة الموضوعية المرتكزة على تحليل العلاقات الاقتصادية والسياسية المركبة، فكل منهما يأخذ جانباً واحداً، ولا يقرأ اللوحة السياسية الشاملة داخلياً وخارجياً، واقتصادياً وسياسياً وفكرياً. ولهذا كان (الزخم) الوطني الذي تشكل بحركة الوسط الحكومية والشعبية السابقة الذكر، والذي لعب فيه الوطنيون واليساريون دور التبشير والرؤية به، قد وصل إلى مداه ثم تراخى عاجزاً عن القيام بمبادرات سياسية واقتصادية تحولية كبيرة أخرى تنزع الإحباط كلياً من الأوساط الشعبية المحبطة، وتسحب البساط من تحت أرجل قوى التطرف. ولهذا فإن اليأس العميق الذي تسرب للقوى اليسارية من الوضع الهامشي ومن اللامبالاة بساحة سيطر عليها الحكوميون والدينيون، على نحو شبه كلي، يأسٌ غير مبرر ولا يرى إمكانيات الحياة القادمة بكل احتمالاتها الغنية. ولهذا حدث تراخ تجاه مسائل تغيير كان ينبغي الدعوة للاستمرار بها، ولكن الدعوات السياسية الفكرية لا تكفي، إذا لم تسندها قوة عمل شعبية تكشف التباطؤ الحكومي أو الأداء السيئ وتقيّم الأعمالَ الحكومية الإيجابية وتبرزها، وتكشف النواقصَ لسدها وتغييرها وليس للتشهير بها. وقد انقسم الوسط الوطني كعادته بين السكوت عن العنف وبين الصراخ والتنديد بالأخطاء الرسمية، وبين الأصوات القليلة التقدمية عادة التي أمسكت الخيطَ الشامل لهذه الجوانب كلها، ولكن كان الاكتفاء بالدعوات والبيانات، ومن دون لجان عمل سياسية مشتركة تكرس برنامج تصعيد الوسط الوطني وتعري الأخطاء وتقدم الحلول وتوصل رأيها للجمهور الواسع، وتشرك بقوة القوى السياسية الدينية لعزل القوى وسواء المعرقلة للمشروعات الحكومية والقرارات الجيدة التي تتوهم بين الدهاليز البيروقراطية، أم الدينية الرافضة لأي حوار وطني جماعي كلي، أقول إن تجسيد هذا الخيط الفكري القيم لم يحصل. ولهذا فإن مواجهة هذه القوى للجمهور المشكل للعنف ضروري عبر نقد أعماله بقوة، وتبيان خطورة أفعاله هذه على مستقبله الاجتماعي، كما لا تحابي الوسط الحكومي الذي لا يفي بوعوده وتبين ذلك في هذا الخط المتكامل الذي ينبغي أن يصل لأوسع القوى الشعبية، من أجل أن يتم تغيير الوعي السياسي الفوضوي بخطوط سياسية مسئولة سواء أكانت تؤيد الوضع الراهن أم ترفضه. وإذا كانت هذه القوى السياسية قد أمكنها في الماضي القريب أن تحشد الأغلبية من المواطنين لتأييد مشروع التغيير فيمكنها الآن أن تعمق هذا التأييد عبر الدرس الموضوعي لكل خطوة سياسية وتحولية مقيمة إياها من خلال تأثيرها في مصالح الأغلبية الشعبية التعبة. إن الطرق السياسية الأدائية الوحيدة النظر، التي لا ترعى سوى مصالحها أو مصالح جماعتها، من دون أن ترى مصالح الكل الوطني، وهي التي تتبدى في الكثير من النظرات والبيانات التي تنهمر على مشاعر الناس قبل عقولهم، هذه الطرق ما أجدر أن تعيد النظر في عملها وتحسن أداءها لكي تسهم في التغيير الممكن الجيد، لا أن تزيد الطين بلة وتشيع اليأس، أو أن تبشر بتفاؤل كاذب وتدعي أن كل شيء ممتاز. وإن وعي السيطرة على الشرارات الصغيرة ومنع تحولها إلى حريق، هذا الوعي ترفدهُ معرفة لحظات الكوارث الكبرى التي مرت على بلدنا والمنطقة، والتي كانت هذه الشرارات الصغيرة تحول بلدنا إلى حطام، وقبل ذلك كان يُنظر لهذه الشرارات باستهزاءٍ وتصغير، لكن ذلك يظهر لدينا بقوة لصغر حجم البلد في حين كانت البلدان الكبيرة تمر بكوارث لا تؤثر فيها مثلما تؤثر فينا هذه الشرارات.
أخبار الخليج 22 أغسطس 2008