ما حدث في موريتانيا الثلاثاء الخامس من أغسطس (آب) من انقلاب عسكري أطاح بالرئيس الذي لم يمضِ على انتخابه سوى عام ونصف، أجمعت النخب الموريتانية على أنها الانتخابات الأكثر ديمقراطية وشفافية في موريتانيا.
وما حدث في قطاع غزة قبل ذلك بحوالي أسبوع من اقتتال بين عشيرة حلس الموالية لحركة فتح وبين ميليشيات حركة حماس، والذي انتهى باكتمال بسط سيطرة حماس على كامل ما تسميه المربعات الأمنية لقطاع غزة بعد معارك شرسة خلفت وراءها خمسة عشر قتيلاً وأكثر من مائة جريح.
وما حدث قبل ذلك (في مايو (أيار) الماضي) في لبنان من اقتتال طائفي بين الموالاة والمعارضة في بيروت أولاً والجبل تالياً وطرابلس في ما بعد.
وما يحدث في العراق منذ احتلاله من قبل القوات الأمريكية ربيع العام 2003 من أعمال عنف رهيبة مصحوبة بعمليات تطهير طائفي وعرقي وديني متبادلة بين ما اخترعته لنفسها قوى ‘العراق الجديد’ من توصيف ‘قشيب’ (ومضلِّل: مكونات الشعب العراقي).
ويمكننا الاسترسال استدلالاً بما حدث قبل ذلك في اليمن وفي بقاع عربية أخرى جرى فيها ما جرى على الشاكلة نفسها أو أقرب.
هذه الحوادث ومعطياتها وتداعياتها إن دلت على شيء فإنما تدل على بعض مظاهر أنماط حياة وعلاقات ما قبل الدولة، ذات سطوة وطغيان على ما عداها من أساليب إنتاج (عوامل وعلاقات إنتاج) حديثة أنتجتها وتوافقت عليها الأسرة الدولية أخذاً بالاعتبار اختلافاتها الثقافية ومنابعها الحضارية. ولعله الحرص على نيل ‘الشارة الدولية’ من خلال الحصول على عضوية منظمة الأمم المتحدة والمنظمات والاتفاقات والمواثيق الدولية، لاكتساب صكوك المشروعية وبطاقة الانتماء إلى النظام الدولي الذي لا تُقبل فيه سوى الدول المستوفية لشرط العضوية الأساسي وهو السيادة المستقلة.
أما مؤهلات الانتماء لهذا النظام الدولي فقد تُركت ‘لاجتهادات’ وإرادات الدول التي يفترض أن تمارس سيادتها على قراراتها وتوجهاتها المحلية فهي - أي هذه المؤهلات - لم ترق بعد إلى مرتبة الشروط.
إن حصول أية دولة على بطاقة عضوية النظام الدولي، لا يجعلها في الحال وبصورة آلية، مستوفية لمقومات الدول القومية الحديثة التي نشأت بدايةً في أوروبا على أنقاض البنى والنظم القبائلية والعشائرية، وأركانها المؤسسية القائمة على حكم القانون والتعددية الثقافية والحريات المدنية.
فالانتقال من حالة ما قبل الدولة إلى حالة الدولة المنظّمة والمؤسَّسة، يتطلب السير في طريق طويلة ووعرة يستلزم التضحية بالبنى القديمة المعيقة لحركة السير في هذا الطريق، لامتهان أساليب المراوحة والمراوغة لإعاقة حركة التاريخ والركون إليها كسبيل للحفاظ على الحال البنيوية السائدة والاحتفاظ بهالة المجد التليد(!).
ومن نافلة القول إن قصر وحصر النظام العربي جهوده الرامية اكتساب الشرعية في الداخل من خلال الائتلاف والتآلف مع المؤسسة الدينية وأركانها، وفي الخارج من خلال تملق كبار وجهاء النظام الدولي ومؤسساته وهيئاته الأممية الفاعلة ومراوغتهم ببعض العروض الديكورية الصقيلة والمعسولة المذاق، إن قصر العمل على هذا المنوال، يعوق بطبيعة الحال استمرار جريان تدفق المد التحديثي باعتباره المقوّم الأساس لتكامل عناصر مؤسسة الدولة المعاصرة ونضجها.
وهل هناك تفسير لهذه الحالة المراوحة للدولة العربية ‘المعاصرة’ أفضل من ذلك الذي توفره لنا تجربة توالد الانقلابات في موريتانيا والموقف السلبي الأخير الذي اتخذته جامعة الدول العربية من آخرها وعبَّرت فيه عن تفهمها الانقلاب الذي قاده خبير وصانع الانقلابات محمد بن عبدالعزيز وأطاح فيه بالرئيس المنتخب محمد بن ولد عبدالله وأودعه السجن هو ورئيس الحكومة ونصب نفسه حاكماً للبلاد في تحد سافر لإرادة الشعب الموريتاني وللدستور وللأسرة الدولية ومواثيقها وتوافقاتها الجديدة التي لا تقر أسلوب الانقلابات.
فقد كان موقف الجامعة العربية الذي عبر عنه أحمد بن حلي في أعقاب زيارته موريتانيا واجتماعه مع الانقلابيين، بمثابة طعنة في الظهر للديمقراطية الناشئة في موريتانيا حتى وإن جاء منسجماً مع ‘روح’ العمل العربي الرسمي المشترك. فهو الموقف الوحيد المتفهم لما أقدم عليه الانقلابيون من إطاحة بالشرعية (أين هو مثلاً من موقف الاتحاد الأفريقي الذي علق عضوية موريتانيا في الاتحاد إلى أن يعود العسكر إلى ثكناتهم وتعود الشرعية؟).
مثلما هو مخجل ومعبِّر أيضاً موقف ثلث أعضاء البرلمان الموريتاني الذين أحالوا الأسود أبيض بتغيير مسمى الانقلاب إلى ‘التغيير’ (يا سبحان الله)، فلقد اختار هؤلاء الانحياز إلى كيدياتهم وعصبياتهم القبائلية والعشائرية (حتى لو توارت وراء أداة السياسة) على حساب مؤسسة الدولة الحديثة. فهل بعد هذا يستحقون شرف العضوية التمثيلية البرلمانية؟
صحيفة الوطن
23 اغسطس 2008