أعلن المدير العام لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي فشل آخر محاولة، ضمن سلسلة محاولات تبذلها المنظمة، لانتشال جولة الدوحة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية من عثرتها بعد مضي أكثر من 6 سنوات على انطلاقها في الدوحة في نوفمبر .2001
وجاء هذا الفشل الجديد في أعقاب عشرة أيام (21-30 يوليو 2008) من المفاوضات المارثونية التي امتدت لساعات المساء ووسط حضور مكثف لممثلي لوبيات المصالح التي يجري التداول بشأنها من وزراء مال واقتصاد وتجارة وصناعة وزراعة، يتقدمهم ممثلو الدول المحورية في منظمة التجارة العالمية الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي ممثلاً لـ 27 دولة أوروبية، واليابان، والصين، والهند، والبرازيل.
بما يعني أن كافة التحضيرات والجهود التي بذلتها سكرتارية المنظمة في جنيف ومديرها العام باسكال لامي لتهيئة الأجواء المؤمنة لنجاح الحلقة الجديدة من المفاوضات، قد ذهبت أدراج الرياح، وأن جرعة جديدة من الإحباط وخيبة الأمل قد تلقتها جولة الدوحة (الجولة التاسعة) من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في إطار منظمة التجارة العالمية، وهي التي تعاني أصلاً من توالي الفشل في تحريكها منذ انطلاقتها.
أما أسباب فشل المحاولة الأخيرة لإنقاذ الجولة فهي لم تختلف عن سابقاتها، بما يدل عن عدم استعداد فرقاء الخلاف بعد للتخلي عن مواقفهم المتصلبة بخصوص المواضيع قيد التفاوض.
فالدول الرأسمالية المتقدمة، لاسيما الولايات المتحدة ومجموعة دول الاتحاد الأوروبي مازالت متمسكة بجوهر سياستها الحمائية المطلقة فيما يخص قطاعها الزراعي، من حيث عدم إبداء الاستعداد المطلوب لإلغاء الدعم المالي الذي يحظى به مزارعو دول الاتحاد الـ 27 والذي يمكنهم من المنافسة السعرية في تجارة المنتجات الزراعية والغذائية العالمية.
والولايات المتحدة هي الأخرى ليست مستعدة لإلغاء هذا الدعم الذي يحظى به قطاع واسع من المزارعين الأمريكيين.
وذلك على الرغم من التكلفة الباهظة التي يكلفها هذا الدعم لموازنات بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي يتم إلقاء عبئها على دافعي الضرائب لديها.
مواقف هذه البلدان بدون شك تحلحلت قليلاً عن مواقفها المتصلبة السابقة، ولكن هذا التغيير لا يطال الجوهر وإنما الشكل. ناهيك عن أن هذا التزحزح مرهون بتلقي تنازلات موازية من جانب الدول النامية فيما يخص إحداث مزيد من التحرير (مزيد من خفض الضرائب الجمركية) لقطاع المنتجات غير الزراعية (أي المنتجات الصناعية)، وتحرير القطاع المالي وقطاع الخدمات. وكما هو متوقع تقاذفت الأطراف الرئيسية المتساومة في المفاوضات: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كممثلين لنادي الأغنياء والهند والصين والبرازيل كممثلين لنادي الفقراء، الاتهامات وتحميل أسباب الفشل كل منهما للآخر، فلقد حملت الولايات المتحدة كلاً من الصين والهند مسؤولية انفضاض الاجتماع دون الخروج بالاتفاق المعلق منذ عام 2003 وذلك بسبب معارضتهما لفتح أسواقهما أمام المزيد من الواردات، وذهبت انتقادات وزير شؤون مجلس الوزراء الياباني نوبوتاكا ماشيمورا في ذات الاتجاه، إذ طالب الهند والصين بأن تقيِّما بدقة كلماتهما وأفعالهما في ضوء مسؤوليتهما عن دعم الاقتصاد العالمي، حيث إنهما تركزان أكثر من اللازم على مصالحهما الخاصة.
إلا أن الصين والهند حملتا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديداً مسؤولية فشل المفاوضات، فقالت الصين إنها انهارت أساساً لأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يكن لديهما أي استعداد لخفض الدعم الهائل الذي يقدمانه للمزارعين المحليين، وأن الدول الغنية إجمالاً مهتمة بمصالحها الخاصة ولا تلقي بالاً لمصالح الدول النامية. وأنها لا ترغب في مواجهة اللوبي الزراعي لديها ولكنها تمارس ضغوطاً هائلة على الدول الفقيرة لخفض الرسوم الجمركية على وارداتها الصناعية ومن أجل فتح أبواب أسواق الخدمات المالية لديها على مصراعيها أمام البنوك وشركات التأمين الغربية. وهذه، من وجهة نظر الصين، قمة الأنانية وقصر النظر.
ذلك ما جرى في العلن أو ما تم التركيز عليه في الإعلام، إلا أن واقع الحال أن اجتماع جنيف الأخير قد حقق تقدماً على مسارات التفاوض الثلاثة: تقليص الدعم الزراعي، تقليص الضرائب الجمركية على المنتجات الصناعية وتحرير بعض أنشطة الخدمات. بل إن تقدماً ملموساً تحقق في الملف الزراعي اشتمل على قبول مبدئي بقيام الدول الغنية بخفض الدعم الداخلي الذي تدفعه لمزارعيها بنسبة تتراوح بين 50-85٪ وإلغاء الدعم بشكل كامل عام ,2013 بما في ذلك حجم خفض الدعم الحكومي الأمريكي لمزارعيها من 40 مليار دولار إلى 5,14 مليار دولار، وكذلك الحال بالنسبة للرسوم الجمركية العالية التي تفرضها بلدان رأسمالية مثل اليابان وسويسرا ودول نامية مثل الهند وإندونيسيا على وارداتها من المنتجات الزراعية لحماية إنتاجها المحلي، وخفض الدول النامية مثل الهند والبرازيل رسومها الجمركية على المنتجات الصناعية بمتوسط يتراوح بين 11-12٪.
ويبدو أن الوقت قد ضغط على الطرفين الرئيسيين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية في اليومين الأخيرين لحلحلة بعض المسائل الإشكالية لاسيما الخلاف بين الولايات المتحدة والهند حول آلية الحمائية التي اقترحتها منظمة التجارة العالمية لانفراج المفاوضات والتي تسمح لدولة ما بزيادة رسوم جماركها في حال تجاوز الاستيراد معدل الـ40٪، حيث أبدت البرازيل حليفة الهند في مجموعة العشرين مرونة فيما يتعلق بقبولها خفض الرسوم الجمركية الزراعية، فيما أبقت الهند على موقفها الرافض لمسعى الدول الغنية تحقيق اختراق في أسواق الدول النامية بدفعها لخفض رسومها الجمركية. فالهند ومعها إندونيسيا وتركيا والفلبين ودول أفريقية اعتبرت هذا المعدل (40٪) مرتفع جداً بشكل سيمنعها من إطلاق آلية الحماية. والراجح أن ما توصلت إليه الأطراف المتفاوضة في جنيف في الأيام الأخيرة من شهر يوليو الماضي والذي وصفه مسؤولون من المنظمة بأنه يفوق الخلافات المتبقية، سوف ينهض أساساً لاتفاق نهائي حول القضايا الثلاث الرئيسية المتفاوض عليها والمنوه عنها آنفاً، إذ من المتوقع أن يتم الترتيب لجولة مفاوضات تكميلية بعد جولات حوارية مكوكية سوف يتعين على باسكال لامي القيام بها لتسليك مساراتها قبل طرحها على أعضاء الجمعية العمومية للمنظمة البالغ عددهم 153 دولة. على أن هنالك ملاحظة جديرة بالأضواء الإعلامية، وهي أن جولة مفاوضات الدوحة عندما أُطلقت عام 2001 كانت قد حملت طُعماً ترغيبياً للدول النامية مفاده أن هذه الجولة ستُكرس للتنمية في الدول النامية، أي سوف يتم تسخير آليات التجارة الدولية والاستثمار المتصل بالتجارة لتعزيز الحراك التنموي في الدول النامية، بعد أن صيرت الدول الرأسمالية المتقدمة جولة أوروغواي لصالحها.
فإذا بجولة الدوحة تتخذ نفس سيناريو سابقتها (جولة أوروغواي)، حتى أن وزير التجارة الصيني تشين دمينج اتهم الولايات المتحدة بالإفراط في مطالبها من الدول النامية بعدما وفرت الحماية لمصالحها.
صحيفة الوطن
21 اغسطس 2008