لم يختلف وضع الرأسمال النقدي البترولي في العراق عن غيره من الدول العربية والإسلامية إلا في تضخم السمات السلبية في هذا البلد، نظرا إلى هيمنة الدولة العراقية الاستبدادية الشرسة على هذا الرأسمال وتوظيفه للحروب، وهو الجانبُ الذي دمر ليس التراكم النقدي بل الحياة الاجتماعية والاقتصادية. لقد تضخمت في الدول البترولية أجهزتـُها على نحو هائل، فأعداد الموظفين العسكريين والمدنيين ازادات أعدادا كبيرة غير مسبوقة، وتفاقمت نفقات معداتها وأجهزتها وتداخلت مع أشكال أخرى من النفوذ والهدر الاقتصادي، لكن هذا يعبر عن سمة قديمة في الأنظمة العربية التقليدية وهي سمة تقوية الفروع غير المنتجة بشكل غير عقلاني وغير مفيد، واستثمرت الجماعةُ القريبة المتحكمة في هذه المداخيل النقدية لأعمال مالية واقتصادية شخصية تلتهم جزءًا مهماً من المداخيل، لا أحد يعرف حتى الآن حجمه وتنوعه وروابطه بالشركات الخاصة و(الرأسماليين) الواجهات لأصحاب النفوذ والذين ظهروا فجأة وكانوا بلا رساميل وهو أمرٌ فاقم من البذخ والهدر المالي للدول النفطية على نحو غير مسبوق. وبهذا الصدد فإن هذه الواجهات تغدو جزءًا من العائلة، وخاصة للنساء اللواتي يعطين حصةً كبيرةً من هذه الواجهة، كما تـُعطى حصص أخرى للأبناء الذين يغدون أصحاب مؤسسات، فيتداخل الجذر الإقطاعي والتطورات الرأسمالية على مستوى مصادر الدخل، فيغدو الجذر التقليدي هو النبع، وهو المحاط بطبيعة النظام التقليدي، الذي يكون له في كل بلد تقاليده الخاصة، وتنمو الدخولُ الرأسماليةُ كذلك من دون أن تتحول إلى دخول منتجة، فأغلبها يتجه للتوظيفات المالية والعقارية والتجارية، وهو ما يحولها كذلك للمحافظ النقدية الغربية. وهناك نمو كبير للرأسمال الصناعي الخليجي على سبيل المثال وأغلبه في المشروعات الصغيرة والمتوسطة، (حيث تمثل هذه نحو 85% من اجمالي المصانع وتوفر بين 50% إلى 80% من فرص العمل حسب مجلة دراسات خليجية، تقرير من كونا). لكن لا نعرف العلاقات بدقة بين الرأسمال النقدي النفطي والرأسمال الصناعي وبقية الرساميل، وهذا أمر يحتاج إلى درس خاص. لكن القسم الأكبر من هذا الفيض النقدي يتوجه إلى الحصالات الغربية المختلفة، بطبيعة الجذر المحافظ الذي ظهرت منه، فهي رؤوسُ أموالٍ لم تـُنتج من رأسمالٍ صناعي، بل هي نتاجُ سيطرةٍ سياسية على آبار النفط فقط، وحينئذٍ لا تكون لها تربة وطنية بل تحلقُ هاربةً من الوطن الذي تخافُ منه، نظرا إلى مولد الرأسمال غير الشرعي. (وقد بلغت الأموال العربية أكثر من ثلاثة تريليونات دولار في تلك الأعشاش الغربية الحاضنة الرؤوم)، وكما يكون للمتحكمين في الآلة السياسية للمجتمع تحديد كميات الدخول الكبرى فيه، فإنهم يشكلون الفئات المستفيدة وطبيعة المدن السياسية المؤثرة، فقد تغيرت طبيعة المدن في العالم النفطي العربي حسب ولائها أو قربها من الطبقة الحاكمة، فتدهورت مدنٌ قديمة وصعدت مدنٌ جديدة، بل إن ذلك يحدث حتى بالنسبة إلى الأقاليم، فإقليم المتنفذين في الثروة النفطية يغدو هو الإقليم المميز فجأة، خاصة في سنوات ارتفاع الأسعار البترولية الذي حدث بدايةً من السبعينيات كما سبق القول، فينحسرُ دورُ الإقليم القديم، وتتراجع الخدماتُ فيه، ولا تحظى العائلاتُ والقبائلُ التي كان يهفُ عليها بعضُ نسمات الربح البترولي بما كانت تحظى به، وهذا قد يحدثُ في بضع سنواتٍ قليلة، فتتغيرُ معيشتُها فجأة، وتنقلبُ أحوالُها، وفي المجتمعات البدوية خاصةً التي ترتبطُ بأعراف الموالاة والاعتماد على العيش من التدفق المالي الحكومي، والذي قد يتشكلُ في المناقصات التجارية أو في الخدمة العسكرية، فإن هذه الولاءات القبلية تنقلبُ فجأة كذلك. في حين يتوجهُ الفيضُ البترولي المباركُ إلى إقليم جديد وتظهر مدينةٌ كبرى كانت بلدةً لا يعرفها التاريخُ ولا دوائرُ الإحصاء الرسمية، وتصبحُ بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها مدينة كبرى، وهذا التحول حدثَ فجأة لأن الكيانَ الحكومي انتقل إليها، أو أن الحاكمَ ظهر منها، أو أن الانقلاب حدثَ فيها، ولكن هذا الانتقال المكلف مادياً حيث يحتاج إلى مؤسساتٍ وإنشاءات وطرق عادة تكون فخمة حسب سعر البرميل، يرادفهُ كذلك انتقالُ الحكام أو طاقم الوزارات وعوائلهم والعشائر والعائلات والخدم والحشم الأجانب عادة التي تعملُ لديهم إلى هذه المدينة الجديدة، فتتركز العوائدُ النفطية على الاعمار الباذح للمباني وعلى المتاجر التي تضخُ السلعَ إليهم، وعلى الورش والمعامل والكراجات التي تقدم خدماتها لبيوتهم وسياراتهم وأعمالهم. بطبيعة الحال هناك الثلث من الميزانية الذي يكون مخصصاً للوزارات الخدمية، والذي يتوهُ كذلك في الدهاليز البيروقراطية، المليئة بقطط المطابخ السياسية، وهذا الثلث الخدماتي يتقلب هو الآخر مع تقلبات الزمان النفطي السياسي الذي لا يدوم لأحد، فالتجار الذين كانوا في البلدة السابقة التي تعيش في خير الحكم، والتي كانت أحوالهم من المعدن، تتردى ظروفهم مع هذا التحول، ويتحولون فجأة إلى عاطلين أو مفلسين، وقد نرى ذلك حتى في عاصمة كبيرة كبغداد، التي ازدهرت بعض أحيائها في الزمن الملكي فتدهورت في الزمن الجمهوري وانتقل (الخير) إلى بعض المناطق البدوية الوسطى. فحالنا لم يختلف جوهرياً عن الحاكم العربي الذي حدد خراج الغيمة في جيبه أين ولت، لكن صارت الغيمة بترولية.
صحيفة اخبار الخليج
21 اغسطس 2008