مع تدفقِ الفوائضِ النقدية على الدول المصدرة للنفط وهي في الحقيقة ليست (منتجة) بل هي حارسة سياسية على آبار البترول كما لو كانت آبار ماء للرعي، وكونها الحارسة والمالكة لهذا السائل المتدفق فقد تملكت سياسياً حصيلة المنتج بأسعار تقترب شيئاً فشيئاً من سعر الأساس الذي يقيّمُ به سعرُ البترول عالمياً. وقد رأينا أن المعاركَ التي خاضتها الشعوبُ والطبقاتُ العاملة وكذلك نتائج الحروب ومفاوضات منظمة أوبك كلها انصبت للتقارب مع أسعار بيع النفط الأساسي الذي نزل كالمطر النقدي على الصحراء الجرداء، فأسرع البدوي إليه حثيثاً!
ولكل بلد نفطي ظروف خاصة به، ومساحة جغرافية تم نهب النفط فيها، وإدارة غافلة خاصة به، تركت المرعى للراعي الأجنبي يفعل ما يشاء، حتى إذا ضحت الشعوبُ تقدمت الإدارة الغافلة لتصير مُلكاً عضوضاً أو مجلس قيادة نهب الثروة، لا الثورة، وقررت كيفية تصريف هذا المال المتدفق بغزارة. يروي لنا الباحث الاقتصادي العراقي كاظم حبيب كيفية استغلال النفط في العراق فيقول: (أن الكارتيل النفطي العالمي قد أهمل وهمّش النفطَ العراقي طوال العقود الأولى قبل ثورة تموز .1958 وقد برز هذا الإهمال والتهميش المتعمد في عدة نقاط، أبرزها: قلة عمليات التنقيب عن البترول، قلة كميات الاستخراج وكميات التصدير، نقص الموارد المالية المتأتية من ارباح النفط الخام للخزانة العراقية، وخاصة أن حصة العراق لم تزد حتى عام 1951 عن أربع شلنات ذهب للبرميل الواحد، ثم أصبحت مناصفة في الأرباح وفق اتفاقية 1952 بمردود رجعي لسنة واحدة فقط). رغم أن العراق كان أول بلد يـُكتشف فيه النفط في المنطقة ويصدر فإن شركات النفط تعاملت بحذر مع الوضع العراقي السياسي المعادي لها، فجعلتهُ هامشياً وطورت حقولاً أخرى تسودُ فيها الغفلةُ السياسية. يضيف الباحث: (لقد خاض رئيس الحكومة العراقية عبد الكريم قاسم مفاوضات صعبة كشفت عنها محاضر جلساتها بوضوح كبير التي دفعته إلى إصدار القانون رقم80 لسنة.1961 والأسباب كانت واضحة جداً وأبرزها: توقف التنقيب عن البترول تقريباً في جميع الأراضي التي كانت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية، ندرة إعادة استثمار جزء من الأرباح السنوية المتحققة لشركات النفط الأجنبية في اقتصاد النفط الخام وعدم تحديث المكائن والمعدات، قلة الاستخراج والتصدير وحاجة البلاد للموارد المالية، عدم استجابة الشركات لمطالب العراق العادلة والكثيرة، عدم تعريق الموظفين في الشركات الثلاث، وجود إمكانية دخول شركات أجنبية أخرى منافسة في اقتصاد النفط الخام العراقي.). علينا أن نرى أن قيادات القوى العسكرية أخذت مكان الأسرة الهاشمية كإقطاع حاكم، وراحت تسيطرُ تدريجياً على الثروة الأساسية سواء عبر عبدالكريم قاسم أم عبدالسلام عارف أم صدام حسين، فهؤلاء يمثلون تدرجات من سيطرة الإقطاع السياسي على البترول، وللبترول علاقة كبيرة بنمو العسكر وتصاعد دورهم السياسي، وإذا كان عبدالكريم بلا روافد شعبية كبيرة تدعم حكمه إلا عبر المناورات السياسية البارعة، فإن صدام حسين جاء نتيجةً لنمو حزبٍ سياسي وسط العسكر وبين الجمهور المسيس. وهكذا فإن الثروة النفطية جاءت كفيضٍ مالي نزلَ من السماء، وهو أمرٌ جعل الوعي الديني غير قادرٍ على إنتاجِ عقلانية إسلامية، لأن العقلانية تظهرُ من تصنيعٍ في تربةٍ وبين جماهير وضد خرافاتٍ متكلسة، فقطعتْ الثروةُ السريعةُ غيرُ المنتجةِ والمصنعة خيوطَ الوعي لأن تتجذر وتتصنع في التربة. بل تنامت الأجهزةُ السياسيةُ والعسكرية القامعةُ للوعي لأن يتجذر وطنياً، وظهر المنقذُ (الإلهي) و(القومي) من مستنقع النفط الاقتصادي، فكان لا بد أن يعتمد على الرشوة الواسعة لكي يُلحقَ زبانيةَ الجحيم والنعيم هؤلاء بملكوته الطاغي. إن الخليفة العباسي السفاح أو المنصور، وهو يستغلُ الموادَ الزراعية الرخيصة كون مثل هذه الحشود الملحقة بمعسكره، وكلما ازداد الفيضُ الزراعي تنامت قوته، وهنا في العصر الحديث شكلاً كلما تصاعدت أسعارُ النفط كثر حرسهُ وفرقة العسكرية وأجهزته القمعية. ونظراً لتسييس المجتمع العراقي فقد جاء البذخُ العسكري أولاً، وهو إذ يدور حول بؤرة الطبقة التقليدية الجديدة، ينمي مداخيلها وفللها ومشروعاتها الاقتصادية التي تدور حول بؤرتي السلع الاستهلاكية الشخصية والسلع الاستهلاكية الإنتاجية أي التي تخدم الأشخاص عبر تصنيع مواد بيوتهم وأشكال رفاههم. يقول كاظم حبيب: (التفريط بالموارد المالية النفطية في تلك الفترة والتي تجلت في الاستيراد المفتوح والواسع النطاق وبأرقام مالية خيالية، وطبيعة العقود مع الشركات الأجنبية القائمة على أساس تسليم المفتاح، وإقامة المشاريع الباذخة والبدء بالتسلح والتصنيع العسكري والتحضير للحرب ضد إيران. لقد كانت تلك الفترة ازدهارا في أرباح الشركات المقاولة الأجنبية والعراقية القريبة من النظام والحرفيين والشركات التجارية. ولكنها عرفت في تلك الفترة البدايات الفعلية للفساد المالي في النخبة الحاكمة وأجهزة الدولة العليا وتفاقم النزعة الاستهلاكية في المجتمع.)، التعليق على المحاضرة اللندنية نفسها. تقوم الطبقة التقليدية الجديدة بتوجيه الفوائض النقدية نحو البذخ الاستهلاكي أو العسكرة أو الحروب أو التحول لرأس مال مالي مهاجر، وفي كل هذه المظاهر ليس ثمة عودة للفائض لكي يكون رأسمال، إلا من بعض مشروعات الصناعات التحويلية.
صحيفة اخبار الخليج
20 اغسطس 2008