بدأت كلمة ‘نيت’ الروسية (وتعني بالعربية لا) تستعيد شيئا من وقعها السياسي السابق، حيث كان يهتز لها العالم عندما ينطقها ممثل الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة أو أي محفل دولي آخر، أو حتى في مؤتمر صحافي.
رغم التزام الولايات المتحدة ودول الغرب والناتو مبدئيا بنصرة جورجيا في مواجهة روسيا، إلا أن جميع هؤلاء قد شعروا بضعف حليفهم الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي في تقدير الأوضاع السياسية والأمنية في، وحول بلاده وفي العالم. لقد نفذ صبر ساكاشفيلي من انتهاج الوسائل الدبلوماسية التي عجزت عن حل مشكلة جمهورية أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا طيلة الخمسة عشر عاما الماضية. واعتقد بأن تطهيرا لأوسيتيا الجنوبية من خصومه الأوسيتيين بعملية خاطفة أسماها ‘بالحقل النظيف’ سيضع روسيا والعالم أمام معطى جديد قد يكرره مع أبخازيا ليحل بالطرق العسكرية وبشكل نهائي مشكلة هاتين الجمهوريتين. وكما لم يتوقع الغرب من ساكاشفيلي هذا التهور، كذلك لم يتوقع ساكاشفيلي من روسيا هذه ‘النيت’ الروسية والرد العسكري الحاسم الذي انتهى بالمشكلة إلى مسار آخر بغير ما تشتهيه جورجيا. اضطر الرئيس الجورجي في نهاية المطاف إلى التوقيع على الوثيقة التي أعدها نظيراه الروسي والفرنسي حول وقف إطلاق النار ببنودها الست. ورغم أن وزير الخارجية الفرنسية برنير كوشنار (بصفة فرنسا رئيسة للاتحاد الأوروبي) قد صرح بأن اتفاقية السلام بين روسيا وجورجيا التي تمت بوساطة فرنسية لا تتطلب توقيعا من أحد. وهي تعمل على أساس تأكيدات شفوية، إلا أن الذي أقنعه بالموافقة على ذلك هي السيدة كونداليزا رايس، وزير الخارجية الأميركية التي وصلت إلى تبيليسي خصوصا لهذا الغرض. صحيح أن ساكاشفيلي أوضح بشكل حاد أنه لن تكون هناك أية مساومات بشأن الوضع القانوني لأوسيتيا الجنوبية وجورجيا وأن رايس أيدته في ذلك عمليا، إلا أن الرئيس الروسي وحتى كتابة هذا المقال يوم الجمعة لم يوقع الاتفاقية التي كان أحد معدي نصها والتي وقعها أيضا رئيس أبخازيا سيرغي باجالش ورئيس أوسيتيا الجنوبية إدوارد كوكويتي. وقال ميدفيديف أنه سيوقعها بعد توقيع تلك الأطراف كوسيط.
البنود الست تنطق كالتالي: عدم اللجوء إلى استخدام القوة، الوقف النهائي لكل العمليات العسكرية، ضمان الوصول الحر للمساعدات الإنسانية، عودة القوات المسلحة الجورجية إلى مواقعها الدائمة قبل الحرب، القوات المسلحة الروسية تنسحب إلى ما وراء الخط المحدد قبل بدء العمليات العسكرية، إلى أن يتم إيجاد آليات دولية تقوم قوات حفظ السلام الروسية باتخاذ تدابير أمنية إضافية، كما يبدأ بحث دولي في مستقبل الوضع القانوني لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وطرق ضمان أمنهما الوطيد.
استمر المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس ساكاشفيلي ووزير الخارجية الأميركية رايس ثلاث ساعات بدا فيها ساكاشفيلي غاضبا كثيرا من الغرب الذي وقف في مؤتمر الناتو الأخير في بوخارست أبريل/ نيسان الماضي ضد قبول عضوية جورجيا وأوكرانيا في الناتو. وبدت رايس في محاولة لحفظ ماء الوجه تحاول بالدبلوماسية تعديل ما تغير على أرض الواقع بسبب العمليات العسكرية.
الرئيس بوش قال أن أميركا وحلفاءها يقفون إلى جانب جورجيا ورئيسها المنتخب ديمقراطيا كتفا لكتف، وأن على روسيا أن توف بتعهداتها. لكنه هو الآخر تحرك خطوة باتجاه موسكو حين قال أن ‘العلاقات السيئة بين روسيا والولايات المتحدة لا تتوافق ومصالح أي من البلدين’.
ولم تبد أوروبا موحدة في مواقفها. المستشارة الألمانية ميركل بعد محادثاتها مع ميدفيديف في سوتشي أوضحت بأن أعمال روسيا غير مقبولة وأن سلامة الأراضي الجورجية تبقى غير قابلة للمساس ليس بالنسبة لأميركا فقط. كانت ميركل وميديفيديف قد اتفقا على هذا اللقاء الرابع بينهما منذ قمة ‘الثمانية الكبار’ لحل كثير من القضايا المعمقة بينهما، لكن أحداث أوسيتيا الجنوبية فرضت نفسها على اللقاء.
ميديفيديف أكد من جديد على موقف روسيا بأن كامل المسؤولية جراء انتهاكات الحقوق الفظة تقع على عاتق القيادة الجورجية. وقال بأن ‘روسيا اتخذت من الإجراءات ما سيعلم ساكاشفيلي بألا يحلم بمثل هذا السيناريو في المستقبل أيضا’. بذلك كان الرئيس الروسي يشير إلى ضرورة التقيد بالمبادئ الستة التي تضمنتها اتفاقية وقف إطلاق النار الأخيرة.
ومع ذلك ظلت ميركل أقرب إلى الوقف الأميركي معتقدة بأن رد الفعل الروسي لم يكن على قدر الوضع حتى حسبما وصفته روسيا نفسها. واعتبرت مسألة وحدة الأراضي الجورجية مبدأ أساسيا لحل النزاع. ومع مطالبة ألمانيا بانسحاب روسيا مما أسمته بالحدود ‘النووية’، إلا أنها لم تطالب بانسحاب قوات حفظ السلام الروسية من أراضي الجمهوريتين غير المعترف بهما. ودعت إلى زيادة دولية لهذه القوات بحيث تراعي الموضوعية.
وإذ لم يعترض ميديفيديف على ما قالته ميركل، وأكد استعداد روسيا لتزويد الأوروبيين بكل الوثائق الحية التي تبين حجم الكارثة، لكنه بدد أمل الأميركيين والأوروبيين حين أكد، فيما يتعلق بالقوات الدولية، على أخذ رأي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في ذلك. فهما، وعلى أساس خبرة الخمسة عشرة عاما الماضية، لا تثقان بغير الروس كما قال. واستشهد بمسألة استقلال كوسوفو حين رفضت الأخيرة مشاركة قوات منتدبة من قبل الأمم المتحدة لحفظ السلام وطلبت تشكيلها على أساس انتداب من قبل الاتحاد الأوروبي، وتمت الاستجابة لطلبها.
ومرة أخرى اتخذت ميركل وجهة النظر الأميركية فيما يتعلق بتوقيع بولندا والولايات المتحدة على اتفاقية بشأن الدفاعات المضادة للصورايخ معللة بأنها موجهة ضد أخطار محتملة من جانب إيران وبلدان أخرى. وأشارت إلى موقف سابق بأهمية اجتذاب روسيا أيضا إلى هذه العملية.
ميدفيديف رد بحدة مؤكدا أن هذا النظام ومجمل نظام الدفاعات المضادة للصواريخ الأميركية في اوروبا موجه ضد موسكو مباشرة، وأنه قد تم اختيار اللحظة المناسبة لهذه الإجراءات. إن أية حجج حول بلدان مارقة ما لا تبرر هذه الإدعاءات. لكن ‘النيت’ الروسية الحاسمة كانت من قبل القيادة العسكرية الروسية التي أكدت على أن العقيدة الروسية تعني أن بولندا أصبحت بذلك في مرمى ضربة نوية روسية إن هي مضت على الطريق.
اللاءات الروسية القوية آخذة في التزايد، وهي تعني بأن حقبة جديدة من التوازنات الدولية قد بدأت، وأن على بقية دول العالم أخذ ذلك في الاعتبار.
صحيفة الوقت
18 اغسطس 2008