على نحو غير متوقع جاء الحكم الذي أصدرته محكمة ‘سفاجا’ بمصر في قضية العبّارة ‘السلام ’98 التي غرقت في العام 1998 وهي في طريقها من ميناء جدة السعودي إلى ميناء خفاجا المصري وراح ضحيتها ألف و34 قتيلاً و386 مصاباً معظمهم من العمال المصريين العائدين لزيارة أهاليهم في مصر.
فلقد برأت المحكمة ساحة خمسة متهمين بمن فيهم مالك العبّارة رئيس مجلس إدارة شركة السلام للنقل البحري ممدوح إسماعيل ونجله عمرو نائب رئيس الشركة، من تهمتي القتل والإصابة الخطأ.
فيما قررت المحكمة حبس قبطان العبّارة سانت كاترين ستة أشهر وتغريمه 10 آلاف جنيه مصري بإسناد تهمة التقاعس عن التوجه لمكان غرق العبّارة لإنقاذ الضحايا.
الصدمة طبعاً كانت كبيرة، سواء بالنسبة للمتهم الأول والثاني أو بالنسبة لذوي الضحايا ومن خلفهم زمرة الحقوقيين والقانونيين والمنتمين لسلك القضاء النزيه.
إذ جاء الحكم على خلاف التوقعات المبنية على القرائن الكثيرة التي حفل بها ملف الدعوى، وجاءت حيثياته التي صدرت في 26 صفحة فقط، أن المحكمة لم تطمئن لقرائن النيابة بأن المتهمين تقاعسوا عن إنقاذ الضحايا بإرسال عبّارتين أخريين إلى عرض البحر الأحمر.
أما عن قرائن عدم سلامة وصلاحية العبّارة المنكوبة عند إبحارها من ميناء ضبا السعودي لميناء سفاجا المصري، فإن المحكمة قابلتها باطمئنانها لسلامة العبّارة.
وعلى ذلك، كان لابد للمتهم الأول في القضية من أن يطير فرحاً ويهلل لمنطوق الحكم الصادر في الدعوى وهو الذي فر هارباً عقب الكارثة إلى بريطانيا في مارس (آذار) ,2006 وتحديداً مع انعقاد أول اجتماع للجنة تقصي الحقائق التي شكلها البرلمان المصري للتحقيق في الكارثة الذي توّج بإصدار أمر قضائي بإلقاء القبض عليه بواسطة الشرطة الدولية ‘الانتربول’، ورفع حصانته البرلمانية التي يتمتع بها كعضو مجلس شورى معين وتجميد أصوله المالية. ولم يعد إلى مصر منذ ذلك الحين.
في المقابل، كان لابد لأهالي الضحايا والمعنيين من تطبيق حكم القانون وإحقاق العدالة أن تعقد لسانهم الدهشة مما انتهى إليه حكم المحكمة الابتدائية من التفات عن وقائع وبيِّنات الدعوى كافة وعدم الاعتداد بها وهي:
- تقرير لجنة التحقيق التي شكلها مجلس الشعب للتحقيق في الحادث، الذي قال بشأنه عضو المجلس حمدي الطحان إن السفينة لم تكن مطابقة للمعايير.
- امتناع المحكمة عن سماع شهود الإثبات في الدعوى.
- الإتيان بشهود نفي مطعون في ذمتهم بناءً على سجل تعرضهم لإجراءات تأديبية بحسب رأي مصطفى بكري عضو مجلس الشعب.
- مسارعة صاحب العبّارة (المتهم الأول في الدعوى) لتقديم عرض بتعويض أهالي الضحايا بأكثر من 300 مليون جنيه قبل توجيه التهمة إليه بالمسؤولية عن الكارثة وهربه فيما بعد.
- إفادة الشركة الوطنية للملاحة البحرية بأنها أرسلت إخطاراً إلى مركز البحث والإنقاذ طلباً للنجدة إلا أنه لم يتحرك في الوقت المحدد، بما يشي بتحقق المسؤولية التقصيرية (وهذا الاتهام ساقه النائب العام السابق المسؤول عن ملف القضية قبل أن يتم تحويلها إلى نائب عام آخر. وبالمناسبة فقد تناوب على نظر هذه الدعوى ثلاثة قضاة).
هذه الوقائع والبيِّنات وحدها لا تكفي بالتأكيد لنقض حكم محكمة الدرجة الأولى الذي طعن عليه بالاستئناف النائب العام في يوم صدوره نفسه، ولكنها تنطوي على ما يشي بوجود عيب في الحكم ناتج إما عن قصور في أداء الادعاء العام في تقديم كل ما يعزز ادعائه على المدعى عليهم (المتهمين) أو عن تسرع وارتجال المحكمة في تأسيس حكمها مستوفياً لجميع الوقائع والأسانيد التي وضعها الادعاء بحوزتها.
وهذه من الأمور الاعتيادية المتكررة الحدوث في أحكام الدرجة الأولى، ولهذا السبب أنشئت محاكم الاستئناف والنقض أو التمييز لتصحيح وتصويب الأحكام الخاطئة، فهي إما أن تؤيد الحكم المستأنف أو ترفضه بتسبيب جديد.
ذلك بشكل عام وفي الظروف الاعتيادية، بيد أن القضية المنظورة أمام القضاء المصري والتي نحن بصدد مناقشتها، ليست من الدعاوى الاعتيادية الجاري نظرها وفق قواعد وإجراءات التقاضي والترافع الاعتيادية، ولا هي من جنس القضايا المرتبطة الحدوث بالظروف الاعتيادية السارية. إنها دعوى غير اعتيادية، كما إنها تتعلق بظرف استثنائي بالغ الفداحة والحساسية، لأنها تتصل بإزهاق أرواح أكثر من ألف نفس بريئة بسبب عدم التقيد بأنظمة وقواعد سلامة النقل البحري وبسبب تقصير أكيد في توفير أدوات ووسائل النجاة وتدابير الإنقاذ.
وهذه أسباب كافية لأن تتعامل المحكمة التي نظرت الدعوى المتعلقة بهذه الكارثة بناءً على وقائعها الظرفية الاستثنائية، وهو ما لم يتوفر في محصلة حيثيات الحكم الصادر فيها للأسف الشديد.
وهذا بطبيعة الحال، ليس مؤشراً جيداً بالنسبة للتقدم المفترض إحرازه على صعيد مؤشرات الشفافية، ومنها خصوصاً مؤشر مدى الالتزام بتطبيق مبدأ ‘حكم القانون’ الذي صارت المؤسسات الدولية تحرص على تفصيل بيانه دورياً بالنسبة لدول العالم كافة لتقديم خدمة معلوماتية للمستثمرين الدوليين عن حال الأمان الاقتصادي السائد فيها.
ليس هذا وحسب، بل الأهم من ذلك نيل درجة رضا معقولة من عموم الجمهور الذي لا تنقصه المحبطات والمثبطات وعوامل تكثف وتراكم السخط والغضب، الكامن والسافر منهما.
ثم إن التعامل بجدية في مثل هذه القضايا الحقوقية والإنسانية الكبرى وإحقاق العدالة فيها، من معايير إثبات الصدقية والانتماء لعالم القرن الحادي والعشرين ومدنيته.
صحيفة الوطن
16 اغسطس 2008