المنشور

درويش.. شاعراً ومثقفاً وسياسياً (1)

على امتداد خمسة عقود ونيف من تاريخنا العربي المعاصر، وتحديداً منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي لم يسبق لأديب ومثقف موسوعي وسياسي عربي كبير راحل أن استحوذ على اهتمام منقطع النظير من قبل المثقفين والكتاب والسياسيين العرب على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية والدينية بعد رحيله كما استحوذه الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، وذلك كما تجلى في سيل المداد الجارف الذي لما ينقطع على صفحات الصحف العربية بالتفجع على رحيله المباغت في سن مبكرة نسبياً وهو أوج عطائه (67 عاماً)، وفي رثائه والتذكير بكل مآثره الشعرية والثقافية والسياسية والانسانية. وعلى الرغم من مرور أسبوع على هذا الرحيل فمازالت الصحف العربية من الخليج إلى المحيط تفرد لهذه المناسبة الحزينة صفحات كاملة أو مساحات واسعة من الصفحات، حتى ان عدة صحف عربية رصينة منذ الأيام الأولى لرحيله الفاجع خصصت افتتاحياتها الرئيسية في الصفحة الأولى للحديث عن دلالات رحيله الفاجع، وانشغل ومازال ينشغل كتّاب الأعمدة السياسية والثقافية على السواء بهذا الحدث الجلل، وكذلك رسامو الكاريكاتير، ناهيك عن البرامج المتواصلة المخصصة لهذا الغرض في الفضائيات والمحطات الإذاعية. وحتى طائفة من كبار المبدعين العرب من شعراء وروائيين وفنانين ونقاد لم يسبق لهم أن تباروا على رثاء أديب عربي كما فعلوا ومازالوا مع الفقيد الراحل درويش، ولربما الاستثناء الوحيد الذي حظي بهذا الاحتفاء الرثائي الواسع النطاق الروائي الراحل المصري الكبير نجيب محفوظ، ومع ذلك فإن تأثر واهتمام النخبتين السياسية والثقافية المتواصل بدا أكبر مع وفاة محمود درويش هذه المرة وأشمل، إذ ثمة اجماع مدهش فلسطينيا وعربيا لافت للنظر في التعبير عن الألم والخسارة برحيل هذا الشاعر الفلسطيني الكبير. وحتى خصومه السياسيون أو الفكريون في التيار الإسلامي الفلسطيني، كحركتي حماس والجهاد، لم يشذوا عن هذا الاجماع الفلسطيني والعربي على الرغم من تحامل هذا التيار وعلى وجه الخصوص في لبنان على قصيدته «يوسف« التي غنّاها رفيقه الفنان مارسيل خليفة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا نال الشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش كل هذا الاهتمام والاحتفاء الرثائي ما لم يحظ به أي مبدع عربي راحل آخر وذلك منذ لحظة إعلان وفاته والذي ومازال متواصلا إلى يومنا هذا حتى بعد تشييع جنازته؟ للوهلة الأولى فلعل أول ما يتبادر إلى الذهن أن ما وصل إليه الفقيد الراحل درويش من قمة إبداعية هي وراء كل هذه الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها درويش في وطنه فلسطين، وعلى امتداد الوطن العربي الكبير، ولاسيما أن هذه الشعبية الجارفة قد تعززت بفضل ما غنّاه صديقه الفنان اللبناني مارسيل خليفة، الذي حضر تشييع جنازته المهيبة، من قصائد وطنية عديدة له ذاع صيتها وشهرتها في كل الأقطار العربية. ولربما صح القول أيضاً إن شهرة وانتشار هذه الأغاني المارسيلية في البلاد العربية أكسبت الشاعر الفلسطيني بدورها شهرة وشعبية استثنائية، حيث يكاد درويش واحد من قلة من الشعراء العرب الذين يتهافت الجمهور العربي من كل حدب وصوب بالآلاف للوصول إلى حفلات أمسياته الشعرية أينما حل في أي مدينة عربية من المحيط إلى الخليج. كل ذلك صحيح إلا أنه يفسر جزءاً من الظاهرة. أما التفسير الآخر في اعتقادي فلأن الفلسطينيين والعرب عامة في هذه الأوقات التاريخية العصيبة الدقيقة تحديداً باتوا يتعلقون وينجرفون شعورياً أو لا شعورياً نحو أي رمز كبير يمثل نقاوة الضمير والشرف الفلسطيني والعربي للقضية الفلسطينية في عصر الارتداد الفلسطيني والعربي الكبيرين، عصر الاحباط والانحطاط والهزيمة الروحية السياسية والحضارية المتعاظمة التي لا مثيل لها في التاريخ العربي على امتداد كل عصوره، ولم يكن الشاعر الفلسطيني الفقيد محمود درويش سوى واحد من هذه الرموز القليلة القلة تجسد نقاوة الضمير والطهارة الثورية في عصر الارتداد الكبير، فما بالنا أن هذه النقاوة والطهارة قد اجتمعت في قلب شاعر مبدع كبير؟ وهل هناك أفضل من الشعراء الملتزمين في التعبير عن آلام شعوبهم؟ وما بالنا وقد عبّر درويش بشعره وبمواقفه وبقلمه السياسي في وحدة واحدة متآلفة لا تنفصم ولا تتجزأ عن هذا الالتزام؟ فلم يكن الفقيد درويش إذن مجرد شاعر أو مبدع كبير فقط، بل كان إلى ذلك مثقفا ومفكرا سياسيا كبيرا وإن لم يتخصص في الكتابة السياسية أو التنظير السياسي. ولولا لم يكن يمتلك قلماً سياسياً رشيقاً وبصيراً بالإضافة إلى قلمه الشعري لما أبدع في صياغة وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني الصادرة عن منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، ولما أبدع كذلك في كتابة البيان التاريخي المهم الذي ألقاه القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974، إن لم أكن مخطئاً في نسب كتابة هذا البيان إليه، وهو البيان الذي هز العالم، كما هو معروف ووضع القضية الفلسطينية على أطلس قضايا شعوب العالم المقهورة والمستعمرة وأثار حينها حنق الصهيونية وغضبها الشديد. ولولا لم يكن درويش مثقفاً موسوعياً كبيراً وليس مجرد شاعر فقط لما تمكن من أن يقود واحدة من أفضل المجلات الثقافية العربية الرائدة «الكرمل«. وللحديث بقية.
 
صحيفة اخبار الخليج
16 اغسطس 2008