متى سيحتفي خطباء منابرنا في المساجد والمآتم بالعقل والوعي؟ متى ستتصل خطاباتهم بالواقع من منطلق تحليل عقلاني يدرك تفاصيل هذا الواقع وإشكالاته وأولويات العمل على تطوير آلياته الاجتماعية؟ متى ستظل هذه المنابر أسرى خطابات غالبًا ما تلامس العقل إلا من زاويته السطحية، بل أنها أحيانًا تخشى حتى الاقتراب منه؟ أليس الإسلام من كرم العقل وجعله مناط التكليف عند الإنسان والذي به فضله الله على كثير ممن خلق؟ أليس الإسلام هو من كرم العقل حين وجهه إلى النظر والتفكير في النفس والكون والآفاق وتأملها؟ أليس العقل هو بوابة الحوار مع الآخر وإن اختلفنا أو اختلف معنا أشد الاختلاف؟ هل العقل لا تكون له قيمة وأهمية إلا حين ينحرف عن جادة العقل؟ هل العقل يكمن في التغرير بالشباب وبالناس كافة من أجل الفوضى وإشعال الفتن وتكريس الطأفنة؟ لماذا يتجنب أهل المنابر الخوض في العقل والحديث عن الفلسفة وعدم الإصغاء للرؤى المتعددة من مختلف المذاهب والمشارب والأديان والاتجاهات الفكرية؟
ألم يوجهنا الإسلام إلى احترام العقل واستقلالية الذات وذلك بقوله عز وجل ‘وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون…’.
لماذا تجرد الخطب المنبرية في المساجد والمآتم من هذه المعاني العميقة للعقل والوعي؟ لماذا لايتم فيها مناقشة القضايا التي تجري في العالم، أو في واقعنا وبرؤية معاصرة وثاقبة تستوعب تغيرات العصر ومستجداته؟ ماذا تعني لدى هؤلاء الخطباء (أولوا الألباب) التي قصرها الله سبحانه وتعالى على أصحاب العقول؟ وكم مرة وردت في القرآن الكريم؟ أليس ذلك تذكير بأهميتها ودورها في الحياة؟
ألم يجعل الإسلام الدية كاملة في الاعتداء على العقل وتضييع منفعته؟ فكم عقلاً ضربناه بتقرير وإرهاب وتحريض دونما فطنة أو روية من أهل الخطبة في المنابر؟ مثل هؤلاء ألا يستحقون محاكمة على الإتيان بمثل هكذا أفعال؟
أعتقد أنه بات من الضرورة الوقوف مليًا عند من يستحق أن يعتلي هذا المنبر الذي اعتلاه أهل العقل والفطنة والفكر منذ عهد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن لا يستحق، وهذه مسؤولية تتحملها وزارة الشؤون الإسلامية، إذ الكثير ممن -معذرة- قصر وعيهم يعتلون هذا المنبر ويهذون بكلام مردوده وعواقبه على وخيمة ربما على المجتمع بأكمله، ذلك أن العقل راهن ومستقبل لأنه خلايا التفكير في الدماغ، فإن تلفت هذه الخلايا لدى بعض من يعتلون المنابر فتوقع ما لم يكن بالحسبان وقل على الدنيا السلام، خاصة إذا تركت الساحة في أيديهم، والله من وراء القصد.
صحيفة الوطن
14 اغسطس 2008