سمى العديدُ من الباحثين القطاعَ النفطي من اقتصاد الدول العربية أنه اقتصاد (ريعي) من دون تحديد علاقته بالتشكيلة التاريخية، فكأن النظامَ الاقتصادي كلهُ نظامٌ ريعي، وهي تسميةٌ تركزُ في شكلِ توزيعِ الفائض الاقتصادي، أو تـُعنى بجزئيةٍ فيه مثل أن يُقال نظام الخراج كما سمى بعضُ الباحثين الأسلوبَ الإقطاعي العربي القديم بتلك التسمية التوزيعية الجزئية،(راجع سمير أمين). والريعُ يعني الدخلَ الصادرَ من (إيجار) مبنى أو أرض أو منجم، وهو شكلٌ من أشكالِ الربح يتعلقُ بالأرض ونتاجاتِها المختلفة كالحقول الزراعية والمناجم.
لكن الدولَ العربية التي أعطتْ امتيازاتٍ للشركات النفطية هي دولٌ إقطاعية، وهي أجرت الأرضَ ليس تأجيراً اقتصادياً فقط بل تأجيراً سياسياً، والتأجير السياسي لم يَردْ في مسائل الريع كما تم عرضها في كتاب (رأس المال) لكارل ماركس، لكونه درسَ أشكالَ التأجير في دولٍ رأسمالية متقدمة ولعلاقاتٍ تتعلقُ بالملكية الخاصة، وليس في الدول الشرقية ذات النمط الإنتاجي المختلف حيث تسودُ ملكيةُ ما قبل الرأسمالية. وبهذا نصلُ لكون الريع النفطي الذي يُقدم للزعماء أو للحكومات نظير تأجير أرض للحصول على النفط واستخراجه وتسويقه وبيعه، هو ريعي إقطاعي، وهو يقدمُ نظير هذه التنازلات والاستئجار، وتأخذهُ هذه الجماعاتُ الشرقية المختلفة بسبب سيطرتها السياسية على جهاز الحكم ولا شيء غير ذلك. أي أن هذه القوى الشرقية التي تقدمُ الأرضَ لاستئجار الشركات النفطية تقدمها خدمةً سياسية وليس بضاعةً حرة تتشكلُ في محيط التداول الحر للبضائع، ولا يتعلقُ هذا بسببِ طبيعة الامتيازات الأولى المُقدمة لهذه الشركات فقط بل كذلك لطبيعة العلاقة السياسية بين حكومات مسيطرة بشكل مطلق على الموارد الاقتصادية بسبب سيطرتها العسكرية وحكومات ظل ليس لها من الحكم سوى اسمه، ولهذا فإن مبالغَ إيجار الأرض ستتغير تبعاً لتطور الصراع السياسي بين الدول المنتجة المالكة شكلياً والدول المستوردة المالكة الحقيقية. وكان يمكن أن يحدث ذلك في الدولتين الأموية والعباسية ومن جاء بعدهما، فيغدو النفطُ مثل الأراضي الأميرية أو (الصوافي) جزءاً من دخل الدولة والحكام، وقد ظهرَ ذلك في الامتيازات الأولى حين لم يوجد سوى حاكم المنطقة، فتعطيه الشركة دخلاً من دون اعتبار لأفراد قبيلته أو وضع بلده. ونظراً لكون هذا الامتيازات السياسية جرت في بلدان سياسية ذات ظروف متباينة، فقد دخلتْ هذه الظروفُ في الامتيازات وفي طبيعة الاتفاقيات المعقودة مع الشركات، فخصص بعض الدخل للميزانية العامة، أو لبيوت الشيخ، أو للملك أو للعائلة الحاكمة أو لمجلس قيادة الثورة الخ، وتشكلت عقودٌ علنية وسرية واختفت بنود وعموماً ضُخمت ثروات المسيطرين بغير وجه حق، مما يشير إلى كون عمليات الاستئجار عمليات سياسية، ولهذا فإن الاتفاقيات النفطية تتغير، وتدخل أوبك في معارك لتعديل هذه الاتفاقيات، في حين تقوم حكوماتٌ أخرى بالتأميم كالحكومتين العراقية والليبية في بداية السبعينيات من القرن الماضي. ولنقل إن الحكومات العربية وهي الناشئة في عمليات الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، عبرتْ عن تشبث القوى الحاكمة المختلفة بالهيمنة على الموارد الاقتصادية الغنية، وتصرفتْ بملكٍ عام من دون الإرادة الحرة للشعوب، وحين أشركتْ الشعوبَ في بعض الدخل، قامت بأشكالٍ كثيرة من التحايل لتبقي أغلبية هذا الدخل بين أيدي الحاكمين، وحين ظهرت برلماناتٌ لم تعبرْ بدقةٍ عن قوى الناس الحقيقية، ظلتْ تلك الملكياتُ المهمة من دون كشفٍ حقيقي لمواردها وميزانياتها التحتية الضاربة في السرية والتخفي فلم ينشأ ضبطٌ مالي عادل. ولكن الشركات – كما سنرى بوضوح فيما بعد – لم تدخل مبالغ الإيجار وضروب الصرف الأخرى، إلا كجزء من ريع احتكاري فرضتهُ تلك السيطرة على النفط والحكومات، وهو ريعٌ قادم من الفروق في السعر بين النفط العربي وسعر الأساس العالمي. وبهذا لم يختلف بئر النفط عن بئر الماء الذي يتحكم به شيخُ القبيلة فيؤجرهُ أو يأخذ عليه ضريبة. ثم يقوم بتوريثه لأولاده وتوزيع دخله عليهم. ولو افترضنا أن شركةً غربية جاءت واستثمرته أو حفرت له آباراً أخرى بعقود معينة بينها وبينه، فإن الأمرَ لم يختلفْ عن مادةٍ سائلة أخرى. وتقوم الشركاتُ النفطيةُ باستغلالِ الأزمات الاقتصادية في بلدان المنطقة من أجل تملك ثروة لا تقدر بثمن، فقد أخذت شركةُ أرامكو امتيازَ الحقول النفطية السعودية الهائلة سنة 1933 بمبلغ 000،500 جنيه استرليني ذهباً. ولم يكن يكلف استخراج البرميل في السعودية أكثر من 35،0 دولار للبرميل ويُباع بـ 23،2 دولار. فجاء المبلغُ الزهيدُ المقدم للحكومة السعودية في ذلك الوقت من هذا الفارق الكبير بين الكلفة الزهيدة وبين السعر العالي الدولي في ذلك الحين. وهذه العمليةُ تتم في دول المنطقة بأشكالٍ مختلفة حسب مستوى تطور كل بلد وظروف حكامه وشعبه. لكن في ذلك الزمن الأولي الذي استمر ثلاثة عقود (وفي العراق أكثر من ذلك حيث بدأ استخراج النفط مبكراً) استرخت فيها الشركاتُ ونهبتْ ما طاب لها النهب! فلا يوجد إذًا ما يُسمى اقتصاد الريع بل يوجد اقتصاد إقطاعي اعتبر فيه النفطُ مثل مياه البرك المؤجرة والبساتين، لكون البناء الاجتماعي السائد يطبعُ المستوردَ القادم بطابعه، فيُطبق عليه ما يُطبق على الضمان الزراعي، فيغدو الريعُ ريعاً إقطاعياً. إن الريع يغدو جزءاً من سيطرة إقطاعية سياسية فيلعب دوراً كبيراً في الاكثار من أولاده العاقين للأرض، فتظهر البنايات المؤجرة والفنادق المؤجرة والبشر المؤجرون الخ، فيلعبُ العقارُ دوراً محورياً في نمو البناء الاقتصادي، تتبعه هياكل هشة من الصناعات التحويلية، وبناء ثقافي تقليدي ديني شكلاني وسحري وترفيهي بذخي مدمر للتراكم الاقتصادي الحقيقي.
صحيفة اخبار الخليج
15 اغسطس 2008