التحدي الاقتصادي والحضاري
الآن وقد فعلتها الصين في حفل الافتتاح حيث قدمت مساء الجمعة الماضي على مسرح «عش العصفور« ببكين تحفة فنية اشبه بالمعجزة غير المسبوقة في تاريخ الأولمبياد وذلك على امتداد أربع ساعات.. تحفة هي كانت أشبه بالملحمة الاسطورية الفنية المتناغمة والمتكاملة في الأضواء والملابس الملونة والموسيقى الفلكلورية والحركات الابداعية الاخرى وفي طريقة اشعال الشعلة الفريدة من نوعها، وحيث استطاعت بذلك ان تبهر عيون اكثر من اربعة مليارات انسان في العالم تابعوا فصول الملحمة كما تشير تقديرات المراقبين، الآن وحيث لم يتبق للصين سوى ان تعزز هذا النجاح الفني سوى بنجاحات رياضية متقدمة منتظرة في مضامير السباقات ولو في ابرز الالعاب الأولمبية.
نقول الآن وقد تحقق كل ذلك فان السؤال الذي يفرض نفسه: هل تجني الصين اقتصاديا وحضاريا وتبرز ليس كقوة اقتصادية كبيرة بل وكقوة اقتصادية وسياسية عظمى على المسرح الدولي في ضوء كل ما أنفقته من اموال طائلة خرافية على الأولمبياد؟ بعبارة اخرى ما هي العوائد الاقتصادية والسياسية والثقافية الاجتماعية الحضارية المنتظرة من مقابل كل ما أنفقته الصين على الأولمبياد التاسع والعشرين الذي استضافته من اموال ونفقات طائلة وجهد كبير؟ قبل الاجابة على هذا السؤال الكبير الذي سيظل في تقديرنا محور تحليلات المحللين الاقتصاديين والسياسيين المراقبين لاتجاهات ومؤشرات الاقتصاد الصيني بعد نهاية الاولمبياد ولسنوات عديدة مقبلة، لعل من المفيد هنا قبل ذلك التذكير ببعض أبرز المؤشرات والتقديرات التي انفقتها بكين على الاستعدادات والتحضيرات الكبيرة على الأولمبياد منذ نحو عشر سنوات والتي بلغت ذروتها خلال السنوات الاربع الماضية. في الواقع ان ارقام الكلفة الاجمالية لما صرفته بكين على الاولمبياد متفاوتة بين المراقبين ومتضاربة بما في ذلك تضارب حتى الارقام الرسمية: – احدى وكالات الانباء اشارت الى ان الصين منذ فوزها باستضافة الاولمبياد خصصت 350 مليون يورو سنويا حتى انتهائه. – احد المحللين الرياضيين اشار الى ان ما هو مرصود للدائرة الأمنية في اللجنة الاولمبية الصينية يصل الى 3،1 مليار يورو لتوفير الأمن والنظام طوال البطولة بمعدل شرطي واحد لكل 9 لاعبين. ويقدر ما وظفته بكين لحماية الدورة بـ 100 ألف رجل أمن من الشرطة والجيش والقوات الخاصة. – المسرح الرئيسي الذي جرت على ارضه معجزة الصين الفنية في حفل الافتتاح الا هو ملعب «عش العصفور« والذي اعتبرته مجلة «تايم« الامريكية الأروع بين 100 أفضل تصميم معماري في العالم وصممه المعماريان السويسريان الكبيران هيرتزوج ودو ميورون، قُدرت تكلفته بنصف مليار دولار، هذا بخلاف تكاليف انشاء 12 ملعبا مؤقتا و8 ملاعب دائمة شيدت جميعها خصيصا للدورة، دع عنك 11 ملعبا آخر ليصل اجمالي الملاعب المسخرة للدورة الى 31 ملعبا، ولا يعرف عما اذا يدخل في عداد هذه الملاعب ملاعب الجامعات الصينية. كما يصل اجمالي العاملين في انشاءات وتجديد هذه الملاعب الى 30 ألف عامل عملوا على مدار الساعة لتجهيزها. – قدرت الميزانية التي رصدتها بكين لتنقية هوائها والتقليل من التلوث بـ3 m,12 مليار دولار امريكي، هذا بخلاف الحملات الواسعة النطاق لأعمال تجميل المدينة وتزيينها وطلاء جدرانها وتزهير ميادينها وشوارعها، ناهيك عن اعمال التمائم الخمسة الدُمى المعروفة بـ «فووا« وغيرها من الرسومات والاعلانات وخلاف ذلك. – لا تتوافر حتى الآن ارقام محددة ودقيقة عن كلفة استضافة العدد الكبير من ضيوف العالم، وعلى الاخص قادة الدول (90 رئيس دولة) المسئولون والوزراء (160 وزيرا) والشخصيات المهمة الاخرى الرسمية وغير الرسمية. – لا تتوافر كلفة او خسائر نقل المصانع الملوثة للبيئة الى خارج بكين، وعلى الاخص اكبرها ألا هو مصنع الحديد والصلب وهو رمز لفخر الصناعة الصينية في هذا المجال رغم قدمه. – لا تتوافر كلفة تسخير جهاز الدولة الذي يعمل فيه 6 ملايين موظف حكومي للتحضير للأولمبياد، دع عنك مؤسسة الحزب (الحزب الشيوعي) والتي يصل عدد اعضائها الى 75 مليون حزبي، فضلا عن منظمة الشبيبة، في حين يصل عدد الجيش الى مليونين وثلاثمائة الف جندي. – كما لا توجد ارقام دقيقة نهائية لتكاليف كل الخطة المرورية المنفذة، وخطوط المواصلات المختلفة الجديدة، أما توسعة المطار (انشاء جناح كبير عملاق نموذجي فيه) فتصل الى 6،4 مليارات دولار، وقد تم اجلاء 10 آلاف مواطن بسببه وازالة منازلهم، وتم تسخير 50 ألف عامل لتشييده. واستخدم ما لا يقل عن 500 ألف طن من الحديد من اجل ذلك، اما نظام نقل الحقائب والأمتعة فقد كلف 250 مليون دولار، وليس معروفا ايضا على سبيل المثال عما يدخل في عداد ذلك خطوط المترو المخصصة لنقل الركاب داخل المطار. مهما يكن فان ما تقدم ذكره من ارقام بعض مجالات وبنود انفاق بكين على تحضيرات استضافتها الاولمبياد التاسع والعشرين ليست سوى عن بعض من ابرز هذه المجالات والبنود، وبالمثل فإن ما أشرنا اليه من مجالات لم تتوافر ارقام عنها او لم نقف عليها تحديدا ليست سوى امثلة، او غيض من فيض، من مجالات متعددة لا حصر لها، لذا وبناء على ما تقدم يظل السؤال المعلق: ما هي العوائد المتوقع ان تجنيها الصين في سياق لهثها الذي لا يكل نحو النهوض الحضاري المعاصر في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية؟ ذلك ما سنحاول الاجابة عليه غدا.
صحيفة اخبار الخليج
11 اغسطس 2008