المنشور

محمود درويش

‮»‬أيها الموت انتظر حتى أعد حقيبتي،‮ ‬فرشاة أسناني‮ ‬وصابوني‮ ‬وماكنة الحلاقة والثياب‮. ‬هل المناخ هناك معتدل،‮ ‬وهل تتبدل الأحوال في‮ ‬الأبدية البيضاء،‮ ‬أم تبقى كما هي‮ ‬في‮ ‬الخريف وفي‮ ‬الشتاء،‮ ‬هل كتاب واحد‮ ‬يكفي‮ ‬لتسليتي‮ ‬مع اللاوقت أم أحتاج مكتبةً،‮ ‬وما لغة الحديث هناك دارجة لكل الناس أم عربية فصحي‮«.‬ كان محمود درويش في‮ ‬هذا النص المدهش المأخوذ من جداريته،‮ ‬قصيدته الشهيرة‮ ‬يهجس بالموت،‮ ‬هو الذي‮ ‬اختبره مرة،‮ ‬فرآه مثل النوم فوق‮ ‬غمامة بيضاء‮.‬ والى الموت ذهب درويش بجلال‮ ‬يليق بشاعر مثله،‮ ‬وبإنسان كبير مثله،‮ ‬لكن الموت في‮ ‬حالته هو حضور في‮ ‬الأبدية لمن كتب الملحمة الفلسطينية شعراً‮ ‬في‮ ‬المعراج الطويل الذي‮ ‬قطعه،‮ ‬إنسانا ومناضلاً‮ ‬وشاعراً،‮ ‬منذ رحيله الأول إلى لبنان،‮ ‬وهو طفل،‮ ‬عن قريته الربوة‮ ‬يوم جرى احتلالها،‮ ‬ثم عودته إلى الجليل‮. ‬منذ صباه ومطالع شبابه المبكر الواعد بنبوغ‮ ‬الشعر،‮ ‬مناضلاً‮ ‬في‮ ‬صفوف الحزب الشيوعي‮ ‬وكاتباً‮ ‬في‮ ‬صحافته،‮ ‬دفاعاً‮ ‬عن الهوية الوطنية للفلسطينيين الذين أبوا أن‮ ‬يُقتعلوا من ديارهم،‮ ‬وصمموا على البقاء بوجه الآلة الصهيونية العنصرية‮.‬ في‮ ‬رحيله الأول إلى موسكو،‮ ‬التي‮ ‬لم‮ ‬يعد منها إلى الجليل،‮ ‬إنما إلى القاهرة،‮ ‬قال‮ »‬لم أعد قادراً‮ ‬على تحمل البقاء في‮ ‬وطني‮ ‬المحتل،‮ ‬ولكني‮ ‬أحيي‮ ‬كل الصامدين هناك‮«.‬ لم‮ ‬يكن ثمة مدعاة ليعتذر الشاعر لأنه‮ ‬غادر الوطن‮. ‬ما أكثر ما ضاقت الأوطان بأجمل وأروع أبنائها،‮ ‬وشردتهم في‮ ‬صقيع المنافي‮ ‬ووحشتها،‮ ‬فما بالنا إذا كان الوطن‮ ‬يدار من حكم عنصري‮ ‬أراد أن‮ ‬يمسخ هوية من تبقى من عرب على أراضيه‮. ‬ لم‮ ‬يكن ثمة مدعاة للاعتذار،‮ ‬لأن محمود درويش‮  ‬لم‮ ‬يبارح فلسطين أبداً‮ ‬في‮ ‬كل المنافي‮ ‬التي‮ ‬طوحت به الدنيا فيها،‮ ‬دون أن‮ ‬يتخلى عن شروط الشعر وصفائه،‮ ‬بالشكل الذي‮ ‬أدخله في‮ ‬ذاكرة الشعر العربي،‮ ‬لا الفلسطيني‮ ‬وحده،‮ ‬أحد أبرز صناع حداثة هذا الشعر وجماله‮.‬ كما كل مناضلٍ‮ ‬مبدع عانى محمود من التباس السياسة بالفن،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يهرب من انحيازه لقضية شعبه بحثاً‮ ‬عن ملجأ آمن من تبعات السياسة وكُلفها الباهظة،‮ ‬كما‮ ‬يفعل الكثيرون الذين احترفوا التنظير للأدب المجرد من المعنى،‮ ‬أسعفته في‮ ‬ذلك موهبته النادرة التي‮ ‬جعلت من فلسطين شعراً‮ ‬يعيش بوصفه شعراً،‮ ‬لا بوصفه قضية سياسية عابرة تموت حين‮ ‬يكف الحدث اليومي‮ ‬عن توهجه‮.‬ بهذا المعنى ارتقى محمود بشعره وبفلسطين إلى المقام الكوني،‮ ‬إلى الحلم الإنساني‮ ‬في‮ ‬أبلغ‮ ‬تجلياته‮.‬ حين استوى إلى منصة الصالة الثقافية في‮ ‬البحرين منذ عامين بادر الجمهور الذي‮ ‬ضاقت به مقاعد القاعة،‮ ‬فافترش الحضور الأرض‮ ‬يصغون إليه،‮ ‬انه مدين بالاعتذار للبحرين وشعبها لأنه تأخر في‮ ‬المجيء إليها‮.‬ كانت تلك أكبر وأعمق تحية توجه من شاعر بوزنه‮. ‬لكن البحرين التي‮ ‬أتاها كانت قد ذهبت إليه منذ عقود،‮ ‬لأنه لو اختار أن‮ ‬يصمت في‮ ‬ذلك المساء،‮ ‬لاستمع إلى الجمهور‮ ‬يقرأ أشعاره التي‮ ‬حفظ الكثير منها عن ظهر قلب‮.‬
 
صحيفة الايام
11 اغسطس 2008