تكاد الفورة الاقتصادية المندلعة اليوم في بلدان مجلس التعاون الخليجي لا تضاهيها أية فورة سابقة بما فيها طفرتا 1973 و 1979 النفطيتان وتداعياتهما الاقتصادية.
فالفورة الاقتصادية الحالية (Economic boom) تتسم ‘بطول النفس’ مدفوعة بأسعار نفط محلقة عالياً ليس في الأفق القريب ما يشي بإمكانية لجمها.
ولعل بيانات الموقف المالي للاقتصادات الخليجية للسنوات الخمس الأخيرة تكشف عن حجم هذه الطفرة التي تجتازها المنطقة والتي تمتلك قوة دفع متجددة لخمس سنوات أخرى قادمات على أقل تقدير.
فلقد اقترب إجمالي الناتج المحلي الخليجي من حاجز التريليون دولار سنوياً (حوالي 750 مليار دولار العام القادم).
ومع بقاء أسعار النفط على هذا المستوى من الارتفاع (التذبذب حول مائة دولار للبرميل) فإن إيرادات دول مجلس التعاون يمكن أن تقفز في غضون السنوات العشر القادمة إلى حوالي 7 تريليونات دولار.
وقدَّرت نشرة ‘ميد’ الاقتصادية الشرق أوسطية الصادرة في الحادي والثلاثين من مارس الماضي حجم المشاريع المعلنة والأخرى قيد الإنشاء في الخليج بأكثر من 2 تريليون دولار بزيادة قدرها 40٪ عنها قبل عام.
نعم هنالك صعود تاريخي غير مسبوق لمؤشر نمو إجمالي الناتج ومعدل تراكم الثروة وحصة الفرد في الإجمالي، وفوائض كبيرة في الموازنات العامة. وكل ذلك بفضل أسعار النفط المرتفعة وحصيلة إيراداتها.
ومن الطبيعي، والحال هذه، أن ترتفع معدلات الاستثمار، الحكومي والخاص، وبحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر في سبتمبر أيلول2007 فقد ارتفع إجمالي الإنفاق العام بالنسبة للدول العربية مجتمعة بنحو 14٪ في عام 2006 ليصل إلى 348 مليار دولار كان نصيب الدول المصدّرة للنفط نحو 58٪ من حجم الارتفاع في الإنفاق. ورصد التقرير خصوصاً ارتفاعاً في الإنفاق الجاري في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين يفوق ما حصل في عام ,2005 مقابل تراجع الإنفاق الرأسمالي في البلدين، وارتفاعه في كل من سلطنة عُمان والكويت وإلى حد ما في السعودية وقطر.
وبحسب نفس المصدر فإن مبلغ الـ 700 مليار دولار الذي أعلنت عنه دول مجلس التعاون الخليجي كمخصص إنفاق لعام ,2006 يشكل أكثر قليلاً من نصف فائضها الجاري التراكمي المتوقع للفترة 2006-.2010 وهو يشتمل على مخصصات إنفاق على مشاريع استثمارية ضخمة في قطاع النفط والغاز وفي صيانة وتوسيع البنية الأساسية وفي القطاع العقاري.
هذه فقط بعض البيانات المعبرة عن طبيعة المرحلة التي تجتازها الدورة الاقتصادية الانتعاشية في دول مجلس التعاون. الأرقام الأولى التي توضح ارتفاع حجم الإنفاق الجاري في البحرين والإمارات تعكس نوعية السياسات المالية التي اتبعت في البلدين في عام 2006 لمقابلة تحدي التضخم المتصاعد وتراجع القدرة الشرائية للجمهور واستمرار دور القطاع الحكومي في القيام بدور اسفنجة امتصاص جزء من فائض قوة العمل الوطنية في السوق.
وبيانات ارتفاع الإنفاق الرأسمالي في الكويت وعمان والسعودية تعكسان استمرار حالة التوسع الإنفاقي في الأقنية التقليدية (في مثل هذه الأوقات من الطفرات الاقتصادية) مثل البنية الأساسية والقطاع الهيدروكروني (بما يسهم في تعظيم ثقله في الاقتصاد ومزاحمة القطاعات الجديدة الصاعدة)، وثالث أوجه هذا الإنفاق، وهو الأهم، القطاع العقاري.
ولا يعني ارتفاع منسوب الإنفاق الجاري في الحالة الأولى تراجع الإنفاق الاستثماري، أبداً فموازنة المشاريع في البحرين لعام 2005-2006 على سبيل المثال كانت الأضخم في تاريخ البحرين، وقد ذهب النصيب الأكبر منها للبنية الأساسية ومشاريع الإعمار والعقار.
ولا جدال في أن مجالات أخرى هامة مثل الصحة والتعليم كان لها نصيب من غلة الإيرادات النفطية الضخمة.
ولكن حظ هذه القطاعات من الاهتمام الحكومي والإيرادات النفطية كان ضمن السياق الطبيعي لسياسة توزيع وتوجيه الإنفاق، ولم يكن ليختلف عما حدث لها خلال طفرتي 1973 و.1979 فلم نشهد مثلاً خططاً نوعية للاستثمار في التعليم النوعي بالاستفادة من الفوائض المالية الضخمة في استقطاب خيرة العقول الأكاديمية لإنشاء معاهد علمية متخصصة.
وإنه رغم مجيء الفرصة لدول التعاون لثالث مرة (بعد فرصتي 1973 و1979)، فإنها أعادت تقريباً إنتاج ذات السيناريو التنموي السابق، فلم يتم على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي (من خلال مجلس التعاون)، في هذه المرة أيضاً، الاهتمام بجوانب البحث والتطوير ( R & D ) بإنشاء مراكز أبحاث علمية تطبيقية، ولا حتى اعتماد خطة لإنشاء نواة علماء المستقبل.
إنما الذي استقطب الاهتمام والتركيز الأكبر حقيقة هو القطاع العقاري الذي طبع المرحلة الجديدة بطابعه، حيث شهدنا ردم مساحات واسعة من الأراضي البحرية لإنشاء الجزر الصناعية العمرانية والمجمعات السكنية (الفارهة أساساً)، وإنشاء الفنادق والأبراج وناطحات السحاب، حتى أصبح التكالب على العقار في الآونة الأخيرة، سيد الموقف الاقتصادي في دول التعاون، في استعادة لافتة ومتوجسة لما حصل لسوق الأسهم قبل ذلك. فكان أن سجلت الأسعار أرقاماً فلكية غير معقولة (مثلما لم تكن كذلك المستويات اللامعقولة التي بلغتها الأسعار السوقية للأسهم من قبل). فسجل متوسط مؤشر الأسعار العام لقطاع الأراضي التجارية والاستثمارية في دول المجلس في شهر مايو الماضي وحده ارتفاعاً نسبته 20,3٪، كان الأعلى في دولة الكويت التي ارتفع فيها متوسط سعر المتر المربع للأراضي التجارية 50,7٪ رافعاً بذلك متوسط سعر المتر المربع إلى 2688 دينار كويتي مقابل 17800 ريال في المملكة العربية السعودية و1000 دينار في البحرين. بينما ارتفع قطاع الأراضي السكنية في دول المجلس في نفس الشهر بنسبة 2,9٪، بما أسهم في رفع حاصل المتوسط الشهري لأسعار الأراضي السكنية بنسبة 77٪ خلال العام الجاري مقارنة بالمتوسط الشهري للأسعار التي كانت سائدة في عام .2005 والشيء نفسه ينطبق على المباني التجارية المصممة للمكاتب وعلى قطاع الشقق السكنية والفلل.
والنتيجة انه رغم مئات الدراسات والأبحاث والندوات والمؤتمرات التي ظلت تصدح على مدى العقد الماضي بتوصياتها وتأكيداتها على أهمية الانخراط في قطاع الصناعات القائمة على المعرفة.
اقتصادات الكونكريت “2-2”
استطراداً في مقال الأسبوع الماضي الذي ناقشنا فيه ظاهرة قيام نوع من ‘الاقتصاد الجديد’ (المبتكر) في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أسميناه مجازاً اقتصاد الكونكريت (Concrete Economy)، نقول بأنه إذا كانت الطفرة النفطية الأولى 1973-1974 التي سجلتها أسعار النفط (والإيرادات النفطية لدول التعاون ترتيباً) أول قفزة نوعية تسببت في إنتاج ظاهرة جيوش العمالة الأجنبية التي باتت تملأ الأمكنة، وإذا كانت الطفرة النفطية الثانية في عام 1979 على خلفية اندلاع الثورة الإيرانية وتوتر الأوضاع في منطقة الخليج، قد أطلقت العنان لمختلف أشكال الأنشطة الريعية والطفيلية التي نافست وزاحمت ريعية الاقتصادات الرسمية، بل إن الاقتصادات الرسمية بادرت إلى مغادرة مواقعها الريعية واتجهت نحو فروع وأنشطة اقتصادية إنتاجية أسهمت في ترفيع حصة القطاعات الإنتاجية لاسيما الصناعات التحويلية الأساسية (وتفريعاتها فيما بعد) في هيكل إجمالي النواتج المحلية الخليجية، وهو ما دفع الأنشطة الريعية والطفيلية الناشئة آنذاك (إبان الطفرة الثانية) للمسارعة لشغل المكان الريعي الذي أخلته الدولة، فإن الطفرة النفطية الثالثة قد حازت الفضل حصرياً في إطلاق اقتصاد الكونكريت الذي أغرق مناطق شاسعة من البحر واليابسة بالكتل الإسمنتية الصماء، ما أشاع شعوراً عاماً مكتوباً بالاختناق القادم في مناحي الحياة الخليجية المختلفة.
فهذا النمط من ‘التسلق والتوغل’ التنموي، براً وبحراً، بالكاد يوافق أهداف الألفية للتنميةMillennium Development Goals (MDGs) وبالكاد يحقق شروط الاستدامة سواء المدمجة فيها أو المتكرر ورودها، منذ اعتمادها في قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام ,1992 في الاتفاقات والمعاهدات والبروتوكولات والتقارير الدولية.
وهذا ناتج من أن هذه الهجمة العقارية لا تحركها دواعي تنموية بقدر ما تحركها مضاربات محمومة منفلتة العقال أوصلت سعر المتر المربع من الأرض إلى أرقام فلكية أحالتها إلى ما يشبه الألماس الذي لا تقترب منه سوى حفنة الأثرياء.
طبعاً ارتفاع أسعار مواد البناء، لاسيما الحديد والإسمنت على الصعيد العالمي، بمرافقة الانخفاض الكبير في سعر صرف الدولار مقابل بقية العملات العالمية، أسهما بقسطهما في وجه الارتفاع المهول في سعر العقار في كافة دول التعاون.
ولكنها المضاربة والمضاربون هم الذين أحدثوا الفارق في المعادلة السعرية وجعلوا سافلها عاليها، واضعين الاقتصادات الخليجية لأول مرة في تاريخها الحديث، أمام تحدٍ تضخم من نوع جديد.. تضخم يكاد ينأى بنفسه عن سلة السلع والخدمات الرئيسة التي يسجل ارتفاعها قياساً إلى متغير أساس، المقياس الكمي للتضخم، ولكنه في حقيقة الأمر يكاد يكون محور عملية تشكيل وتضخيم أكلاف الإنتاج بسبب الطبيعة الخاصة للدورة الاقتصادية الخليجية.. تضخم هو أقرب إلى ما أفرزته الأزمة الدورية لعامي 1957-1958 من عجز الأزمة ذاتها عن إيقاف حركة ارتفاع الأسعار في الاقتصاد الرأسمالي، حيث بدأت إعادة النظر في نظرية التضخم بالحديث، ابتداءً من النصف الثاني من الستينات، عن نوع جديد من التضخم هو تضخم التكاليف، أي تضخم الأسعار المثبتة أو التضخم من جانب العرض، ومن ثم أصبح التضخم نوعين هما تضخم الطلب وتضخم التكاليف.
وقد ساعد على ظهور نظرية تضخم التكاليف إن ارتفاع الأسعار لم يعد يأخذ طابع الارتفاع المتراكم والشامل بل شكل الارتفاع الحاد في أسعار بعض قطاعات الاقتصاد الوطني، كما هو بالنسبة لقطاع العقار الخليجي في الحالة التي نحن بصددها، وهو ما يفتح المجال عندئذ أمام ظاهرة استمرار ارتفاع الأسعار حتى في أوقات الركود الاقتصادي. فالنقود بتضخم أو انكماش قيمتها، هي في نهاية المطاف أداة للتعبير الكمي عن الظواهر الاقتصادية والنقدية.
وإذا كان التضخم في سبعينات القرن الماضي ظاهرة نفطية مثلما كان ظاهرة مستوردة، فإن التضخم الحالي محقون، بالإضافة إلى ما سبق، بعوامل داخلية تتصدرها المضاربة (إلى جانب التوسع في الإنفاق العام الذي بيَّنه التقرير الاقتصادي العربي لعام ,2007 والتوسع في الاستهلاك الخاص أو النهائي).
صحيح أن هذه العوامل كانت حاضرة حتى في ظاهرة تضخم السبعينات، بما في ذلك المضاربة متجسدة على نحو ساطع في مضاربات سوق الكويت للأوراق المالية وما أفضت إليه من أزمة سوق المناخ الشهيرة، إلا أن طغيان عنصر المضاربة بصورة جنونية في المرحلة الحالية المرتبطة باقتصاد الكونكريت، واتساع حجمها ونطاقها، هو المستجد المميز لهذه الظاهرة التي تعيد إلى الأذهان عملية تعمير منطقة قناة السويس في السبعينات التي شكلت مصدراً لإنفاق عام واستهلاك خاص ومضاربة مجنونة على الأراضي والمباني والمساكن، وهو الأمر الذي أدى إلى الإخلال بهياكل الأجور إخلالاً خطيراً لم يلبث أن عم الاقتصاد المصري بأكمله.
بهذا المعنى فإن ظاهرة ‘البوم الاقتصادي’ (الكونكريتي) الحالية، سوف تفضي إلى مضاعفة تكلفة عملية التنمية (وتعويقها على المديين المتوسط والبعيد)، والمزيد من إضعاف القوة الشرائية للدخل (نتيجة الارتفاع العام للأسعار) وإضعاف الثقة في العملة ترتيباً والإطلالة من جديد على باب عبء الدين العام.
صحيفة الوطن
10 اغسطس 2008