إن السيطرةَ الإقطاعية تصيرُ دائماً هي مضمون الظاهرات الاقتصادية، في حين يغدو الشكلُ رأسمالياً، وهذا التناقضُ هو مشكلُ البضاعة الأساسية، التي هي المادةُ الخامُ الكبرى التي يقومُ عليها الاقتصاد كالفوسفات أو النفط أو القطن، ومن ثم يتغلغلُ في كل ظاهرات الإنتاج والحياة. فكما رأينا كيف غدت سلعة النفط وهي البضاعة الأساسية التي ستحركُ نظامَ الإنتاج برمتهِ متناقضةً بين سيطرة الإدارة السياسية الاستعمارية – المحلية، ذات التوجه السياسي المفروض من أعلى، وبين طبيعة السلعة ذات المعايير الاقتصادية الحديثة المجلوبة من الغرب والمعبرة عن عالم (حر)، فنرى في(البضاعة) صراع التشكيلتين وتباينهما. فهنا إقطاع وهناك رأسمالية، هنا قديمٌ مهيمن، وهناك حديثٌ براني خارجي، وكما يبدو ذلك في السلعة التي تشكلُها قوةُ العمل فإن قوةَ العمل ذاتها تعيشُ نفس التناقض.
فقوة العمل المنضمة لأحدث نظام اقتصادي عالمي وقتذاك تكون مُخرجةً من حقولٍ خربة أو كاسدةٍ أو من مغاصاتٍ انتهى زمانها، أو من اقتصاد رعوي ضاق بأهله، أو من ريف متخلف تكنولوجياً واجتماعياً. ومن هنا فالعاملُ وهو يبيعُ قوةَ عملهِ يبيعُها في وقتِ كساد أو أزمة أو انهيار أو ضعف، ولهذا فإن المعروضَ من قوة العمل يكون كبيراً، فتتدنى الأجورُ إلى أدنى حالاتها، في سلعةٍ هي ثمينة جداً على المستوى العالمي. فالمجتمعُ المتخلف التابع لا يعرضُ سلعتيهِ: النفطَ والعمالَ، وهو في حالةِ حرية، بل في حالة تبعية، فيعرضهما بأسعار متدنية، سواءً على المستوى السياسي الذي يظهرُ في امتيازات النفط الممنوحة بشكلٍ أسطوري للشركات الأجنبية، أو في حالة أجور العمال التافهة. ومن هنا فهو يقدمُ قوةَ العمل وهي في مجتمع تقليدي، مصنوعةً من موادِ عيشهِ البسيطة كالأرز والخبز والأسماك أو العدس والفول، أي كل المواد التي تصنعُ جسمَ العامل بأسعار متدنية جداً. مثلما أن أماكنَ سكنهِ هي الأكواخُ والبيوتُ الكبيرة المزدحمة بالأطفال، ذات الإيجارات البسيطة أو المملوكة للعائلة الكبيرة، مثلما أن معرفته معدومة وعقله مشحون بالخرافات، وهو يجلبُ للاقتصاد الحديث ما تعلمهُ من عادات في أعمالٍ سابقة أو من فنون تعايشت واقتصاد مختلف، كما يجلبُ خاصةً أميتَهُ التي تكون بعيدةً جداً عن قراءة اتفاقيات النفط أو كيفية تشغيل الآلات. وهكذا فإن العاملَ القادمَ لاقتصاد عصري يكون قادماً من اقتصاد حرفي ينهار، فيعرضُ قوةَ عملِهِ كبضاعةٍ تشكلتْ في اقتصاد تقليدي، ومن هنا يتحدثُ هذا العامل شكلانياً، أي يصيرُ جزءا من عالم الحداثة وهو يحملُ داخلَهُ علاقات المجتمع الإقطاعي وثقافته، فيقوم بتغيير الثوب البحري أو الريفي أو البدوي، ويلبس البنطلون، الذي هو زي موحد سواء في مصر أم بريطانيا، مثلما يلبسُ القميصَ أو يضع النظارة، أو يتعلم بعض جوانب المهنة الحديثة. وحين يرتقى أكثر يعرف بعض أسرار هذه الآلات الجديدة بعض الشيء، من تشغيل وملحقاته. إن التناقض في البضاعة له مستوياتٌ متعددة، ففي البضاعة ذاتها كجسد مادي خالص، وهي هنا تتبدى كشكل سائل، فإنها تبقى في أرضها الذي ظهرت منه بجسدها نفسه أو ببعض مشتقاته، في حين انها تحصل لها تطورات هائلة حينما تنتقلُ للعالم الآخر الغربي. ففي الإقطاع تظلُ مادةَ تشغيلٍ لبعض المحركات أو مادةً ثقيلة للشوارع، أما في الغرب المستورد فإنها تظهر بكل تركيباتها وتتشكل عليها مجموعةٌ كبيرة من الصناعات. وعلى مستوى آخر فإن هذه المادة حين تتحول إلى رأسمال في البلد المستخرجة منه تتحول إلى مداخيل في اقتصاد إقطاعي، أي تتجه أساساً لخدمة الطبقة الإقطاعية الحاكمة، وإداراتها وجيشها وشرطتها، والجزء الباقي يتوزع بين التجارة وقوة العمل. أي أن المداخيل في البلد المصدر تتوجه أغلبها لعمليات اجتماعية وسياسية لا تضيفُ تراكماً نقدياً على البضاعة، بل تصبُ في جهة الاستهلاك الجماعي، خاصة مداخيل الطبقة الحاكمة، في حين إن التجارة توظفُ بعضَهُ لعمليات استيرادية معاكسة لعملية التصدير، والجزء الأخير الأقل شأناً يظهر كأجور. وفي حين تتضاءلُ رأسماليةُ البضاعة المنتجة في البلد المصدر، وتستحيلُ إلى علاقات إقطاعية اجتماعية وسياسية وثقافية، فإن كل ينابيع رأسمالية البضاعة تظهر حين تصل إلى البلد المستورد، فتظهر مكونات كثيرة لها، كما تتصاعد قيمها بتحولها إلى مواد مصنعة، فتطور السوق الرأسمالية بقوة. ويتعاكس التصدير والاستيراد حول البضاعة المركزية، وهي مركزية فقط في حياة البلد المصدر، لكونها مادة خاما أولية أو شبه مصنعة تكون أقرب للمواد الزراعية منها للصناعة، فتؤدي عملياتُ التغيير الاقتصادية في البلد المصدر إلى جلبِ مواد مصنعةٍ من البلد المستورد للنفط، فيغدو هذا البلدُ الغربي المستورد سابقاً هنا مصدراً، وبهيئةٍ معاكسة للحالة الأولى. لكن السلع الغربية المصدرة ليست هي سلع زراعية أو مواد خاما بل هي سلع مصنعة، كالسيارات والثلاجات الخ أو بعض المواد المكملة للصناعة النفطية. فإذا كانت سلعُ البلد المصدر النفطية تسهمُ في تغذية التطور الصناعي في البلد الغربي، أو الياباني، فإن نفس هذه السلع المصدرة تغذي الاستهلاك الجماعي والفردي، فتنشأ حالتان متضادتان، حالة استهلاك وبذخ وتضييع لثمار قوى العمل في الشرق، وحالة إنتاج وتوسع اقتصادي وتراكم قيمي في الغرب.
إن المجتمع الإقطاعي يجذرُ إقطاعيتَهُ ويوسعها، ويحدثُها تحديثاً شكلياً، بسبب ان البضاعة ظلت بضاعة، ثم تحولتْ إلى سلسلةٍ من البضائع المشتراة، ولم تتحول إلى رأسمالٍ صناعي مجدداً، في حين إن البضاعة المستوردة بالنسبة للغرب ظهرت كرأسمال صناعي أو كفائض من رأسمال صناعي، ليزداد إنتاجها لهذا الرأسمال. وفي الجزء المخصص للسوق المحلية فإن البضاعة تخلي بعضَ أرباحها على شكل مداخيل للمقاولين أو للشركات التي يتم شراء المواد منها لمصنع التكرير، فتظهر فئات تجارية منتفعة، تحول هذه المداخيل لمتاجر أو هي تطورُ متاجرَها القديمة التي كانت تتعامل بمواد عتيقة، ولا تتوجه هذه الفئات التجارية للمساهمة في بضاعة النفط عبر الإنتاج، حيث يمنع عليها قانون الاحتكار مثل هذا، فالسوقُ النفطية سوقٌ سياسية بالدرجة الأولى. بل هي توجه رساميلها التجارية لشراء أدوات الاستهلاك من الغرب، أو أنها تتحول بعد تراكمات مالية كبيرة إلى نقد عابر للبلدان، أي إلى صرافة وبنوك، لكنها بعدُ لا تعود للمنبع الذي نشأت منه. إن بعض أرباح النفط المحلية تتحول إلى تجارة بالسلع الحديثة، فالغرب هنا يربح على مستوى شراء بضاعة النفط الرخيصة، وعلى مستوى بيع البضاعة الاستهلاكية التي أنتجها بفضل تطوره الاقتصادي المستقل، وبشكل سلع عالية القيمة. ففي حين تغدو البضاعة مصدر استهلاك وبذخ وانتفاخ اقتصادي في جهة، تغدو من الجهة الأخرى مصدر إنتاج. فتصبح الأجور المقدمة للعمال مصدر بناء حياة خاصة، وتصبح لدى التجار مصدر ثراء، وكلتا الطبقتين العمالية والتجارية (الصناعية والمالية مستقبلاً)، فالعمال يصبحون على ضفاف البضاعة النفطية، لا يعرفون منها سوى شكلها المباشر، في حين لا يعرفها التجار أصلاً، بل يفرحون ببعض مداخيلها ويحولونها إلى استيراد، وفي هذه العلاقات غير الإنتاجية العميقة بالمادة – السلعة الأساسية، تظهر الأفكار المصاحبة لعملية الإنتاج هذه. فالعمال يستوردون الأفكارَ الخاصة بنضالهم الاقتصادي من تجارب الأمم التي سبقتهم في الدخول في عالم الرأسمالية، والتجار يستوردون الأفكار الليبرالية من نفس العالم. وسببيات الاستيراد تعودُ لطابع الإنتاج والاستهلاك، فالعمال يناضلون من أجل تطوير أجورهم وأوضاعهم ولا يعملون من أجل تأميم الصناعة النفطية أو تحريرها من الإقطاع، فتظل أفكارُهم مثل عمليات شغلهم تتسم بالسطحية، وبالمعالجة المحدودة للمادة. في حين ان التجار وهم يستوردون البضائع الغالية ويحولون بلدهم إلى مدين في علاقاته الاقتصادية، يستوردون البضائع الفكرية الغربية في بعض أشكال الحرية، مصورين هذه البضائع بأنها صانعة الحرية والتعاون بين المستورد والمصدر، بين البلدان المتخلفة التابعة والبلدان الرأسمالية المتطورة المسيطرة. وهكذا فإن الفئات العمالية الفقيرة أو البيروقراطية والتجار المستوردون يشكلون بدايات الصراع الديمقراطي ضد الغرب، في حدود مستوى تطور القوى المنتجة، وتلك مسألة تخضع لسياق تطور الأبنية الاجتماعية في كل بلد. في حين إن الإقطاع في علاقاته بتوريد السلع المهمة يدعم سلطاته، ويرمم الأبنية الاجتماعية المهترئة، محافظاً على ذات العلاقات التقليدية، التي لها قوانينها الاقتصادية الخاصة، فتصبح القصور مؤثثة بالاثاث الباريسي من دون أن تعرف شيئاً عن موليير.
صحيفة اخبار الخليج
10 اغسطس 2008