التحدي السياسي والأمني كان مؤسس الأولمبياد المعاصر المؤرخ والنبيل الفرنسي بياردو كوبرتان يطمح من إعادة تأسيس دورة الألعاب الاولمبية الدولية على أسس انسانية فنية جديدة قوامها المساواة والندية بين فرق المجتمع الدولي الحديث، ندية تقوم على المنافسة المتكافئة الحرة بعدما كانت الالعاب الاولمبية الاغريقية تقتصر على الاحرار من الرجال فقط وتقصي النساء والعبيد. وكانت المبادئ الرياضية التي أرساها كوبرتان ليست سوى نتائج وثمرة تطور الثقافة الانسانية الديمقراطية التي بلغتها اوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ولذلك كان من ضمن القواعد والمبادئ التي ارسيت لمسابقات اولمبياد المعاصرة التحلي بالقيم الاخلاقية، والاحترام المتبادل بين المتبارين، والتقيد الصارم بقوانين وقواعد الألعاب، واحترام احكام التحكيم، والابتعاد عن العنف والخداع للتحايل على قوانين اللعبة. كما تم ارساء مبدأ عدم اقحام السياسة والصراعات السياسية في المسابقات الاولمبية الدولية لكي لا تؤثر على اجراء المسابقات وهي تتوخى التقيد بتلك المثل الانسانية الرياضية النبيلة. لكن لو خرج دو كوبرتان اليوم من قبره ونظر إلى الحال الذي باتت عليه الالعاب الاولمبية لصعق ذهولا لما آلت إليه من تبدل كبير وافول لمعظم المبادئ والقواعد التي انطلقت تحت راياتها المسابقات الدولية، حيث اخترقها وباءان متداخلان من اوسع ابوابها ألا هما التجارة والسياسة بعدما كانا لعقود يخترقانها من اضيق ابوابها أو على استحياء. وهكذا فقد جرى التخلص من الشعارات والمثل والقوانين التي عرفت بها الالعاب الاولمبية الحديثة تدريجيا فلم تعد الالعاب مقتصرة على الهواة حصرا بل جرى ادخال المحترفين فيها الممولين من اساطين المال والشركات التجارية والاعلانية، وشيئا فشيئا جرى التوسع في ادخال هؤلاء المحترفين جنبا إلى جنب مع دخول الشركات الاحتكارية التجارية الرأسمالية وعلى الاخص الإعلانية والإعلامية منها. وبدت الالعاب الاولمبية تفقد بريق روحها الإنساني المتحضر الذي ظل يميزها طوال عقود مديدة حتى مع كل ما اعتورها من سلبيات ومشاكل. ولم تكن السياسة أو التسييس غائبا عنها بل كان حاضرا في معظم الدورات منذ انطلاقتها المعاصرة لكنها اشتدت على نحو سافر خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ومن ذلك الدعوات المتبادلة إلى مقاطعة المشاركة كما فعلت الولايات المتحدة في دورة موسكو عام 1980 وردت عليها هذه الاخيرة بالمثل في دورة لوس انجلوس عام 1984، لا بل ان الدولة المستضيفة في الدورة الحالية (بكين 2008) سبق لها ان قاطعت دورة روما عام 1960 لقبولها مشاركة جزيرة تايوان تحت اسم «جمهورية الصين«. وتأسيسا على ما تقدم نستطيع القول إن الاجواء والحملات السياسية التي رافقت ومازالت ترافق دورة بكين الحالية ليست مقطوعة الصلة عن تاريخ طويل من التراكمات التسييسية، ويلعب الغرب اليوم دورا مخربا كبيرا في فرض هذا التسييس واستغلال المثل الديمقراطية والانسانية بانتهازية فجة لتوظيفها في سياق حربه النفسية على الصين، ليس لأنها تختلف عنه في النظام الاجتماعي كدولة اشتراكية بل وكدولة منافسة أيضا في مجال التجارة الدولية. ولعل الولايات المتحدة في مقدمة الدول الغربية التي انبرت لشن مثل تلك الحملات النفسية واستغلال كل شاردة وواردة من السلبيات والاحداث الداخلية لاثبات فشل الصين في استضافة الدورة. ولقد كان من ابرز التحديات السياسية التي واجهتها ومازالت تواجهها الصين في هذا الصدد تتعلق بمدى جاهزيتها لتقديم خدمة اعلامية حرة متميزة تقوم على الشفافية الكاملة من دون قيود باعتبار نظامها السياسي شموليا وليس ليبراليا تعدديا، وعلى الاخص فيما يتعلق بخدمات «الانترنت«، ومع ذلك وعلى الرغم من الحملات الغربية التي مازالت تتوالى عليها استطاعت بكين ان تقدم تنازلات بفتح خدمة الانترنت بلا قيود في المركز الاعلامي الأولمبي وان كان البعض يشكك بوجود وحجب على مواقع حركات المعارضة الصينية. ولم تتوان منظمة العفو الدولية عن استغلال الدورة لاتهام الصين بخيانة القيم الاولمبية الانسانية التي تعهدت بكين باحترامها لأن سجلها في احترام حقوق مازال سيئا، وايا كان الامر من هذه الانتقادات وهي لا تخلو على أي حال من الصحة فان بكين تعاملت في استعداداتها للدورة بمرونة سياسية هائلة كنظام اشتراكي يقوم على حكم الحزب الواحد، ووصلت بها هذه المرونة إلى درجة عدم ممانعتها من مشاركة غريمتها الرأسمالية المنشقة عن الوطن الام «تايوان« وذلك بعد ان تم اعتماد اسمها كما هو مدرج رسميا لدى اللجنة الاولمبية «تايبيه الصينية«. أما من الناحية الامنية فبالرغم مما واجهته بكين من تحديات سياسية امنية تمثلت في تأجيج أزمة اقليم التيبت وكذلك فيما يقوم به المتطرفون الاسلاميون من اعمال ارهابية كان اخطرها الهجوم الانتحاري الذي وقع قبيل أيام من افتتاح الدورة في اقليم شينجيانج ذي الغالبية الاسلامية والذي ادى الى مقتل 16 جمركيا فان هذه العمليات اليائسة لم تحل دون اقرار اللجنة الاولمبية بما اتخذته بكين من استعدادات امنية كافية واسعة النطاق كما اقر بها رئيس اللجنة جاك روج وهو الذي اشاد بالتحضير الصيني الممتاز للألعاب، ووصف القرية الاولمبية بأنها «الافضل بكل المقاييس« واكد أن دورة بكين ستنجح.
صحيفة اخبار الخليج
10 اغسطس 2008