تزامنت مسألتا طلب تقديم الرئيس السوداني البشير للمحكمة الجنائية الدولية، والتي أثار زوبعتها أوكامبو فجأة، مع العلم أنها مبيّتة لكونها كانت تطبخ من وراء الكواليس بكل هدوء لوقت طويل، فأقام أوكامبو بتلك الدعوة العالم ولم يقعده في الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية وبشكل خاص في السودان نفسه، والذي بات همه الداخلي والخارجي الدفاع عن وضع الرئيس ومن خلاله الدفاع عن سيادة البلاد وشرعيتها الدولية والسياسية، فمحاكمة الرئيس السوداني تمثل محاكمة الوطن السوداني الجريح نفسه، والمعرض لمشاريع تقسيمية عدة إن لم يتحرك الشعب السوداني نفسه من اجل مشروع جديد للسودان الديمقراطي القائم على معالجة ووحدة وطنية حقيقية يتم فيها تقاسم وتداول السلطة من خلال المناخ الديمقراطي السلمي القائم على شرعية المواطنة المتساوية وحق الانتخاب والترشح لكل مواطن سوداني دون استثناء، كجزء أساسي من حق وإرادة الشعب التي ينبغي أن يؤسس لها الدستور ويحترمها الجميع ويحتكم لها الجميع بكل رحابة وواقعية سياسية واقتناع ومساواة وتسامح. ومن خلال هذا المشروع السياسي الانتخابي والديمقراطي القائم على أساس التدوير والتداول للسلطة تنزع من أنياب العسكر والبطانات القديمة كل مخالبها، بدلاً من المتاجرة السياسية بأمور وطنية ودينية مضللة ومخادعة.
ما قامت به سابقا المنظمات الدولية والداخلية حول قضايا دارفور والجنوب والواقع السوداني المزري لسنوات طويلة من ممارسات القمع والإقصاء والعصبيات الدينية وغير الدينية، كانت لا بد وان تفضي لمثل هذه التدخلات الفجة، فمن جهة كانت هناك ممارسات إثنية ودينية وجغرافية غير عادلة تم على أساسها اقتسام الثروة والسلطة، ما حرك الماء الراكد في السودان بعد أن تفاقمت الظروف الحياتية السيئة للسودانيين والسودان. وكما يقال »رب ضارة نافعة«، حركت المياه الراكدة في بعض الينابيع المتجمدة، بعد أن تحول السودان إلى كتل وذرات من الشظايا والانقسامات، وأفرزت الحياة السياسية على مدار العقود الأربعة منظمات وقوى متعددة لم يدرك النظام المركزي كيف يعالجها جذريا لأسباب ومكونات هيكلية في بنية النظام العسكري نفسه آنذاك والمحتمي بنزعة دينية لم تعد شكلاً وصيغة نهائية تناسب السودان التعددي بتاريخه الطويل من انجازات نضالية ووعي سياسي متقدم.
تأتي زوبعة تقديم البشير للمحاكمة الدولية في ذات الوقت الذي تم فيه تقديم كاراجيتش لمحاكمته إلى محكمة لاهاي نفسها بتهم الإبادة العرقية وجرائم الحرب وغيرها من التهم، كمغزى سياسي عالمي عن أن لا أحد بإمكانه الإفلات من العقاب، ولكن ذلك الموضوع ليس دائما يتم انجازه، فمن يلعب بالأوراق الخلفية للمحاكمة والمحكمة قوى دولية لها اليد الطولى في اصطياد النمور الهاربة أو في تحديد حدود الغابات التي تركض فيها، فهناك سياج لا يمكن لتلك النمور الهائجة تخطيه. هكذا ترك كاراجيتش طوال هذه السنوات يعيش حياته المتخفية، كاشفا في هذه اللحظة عن تلك الصفقة الأمريكية مع الجانب الصربي في البوسنة قبل الانتهاء من التوقيع على اتفاقية دايتون، التي كان مهندسها وعرابها السفير الأمريكي ريتشارد هولبروك الذي كان وسيطا في قبرص لاحقا ولكن القبارصة اليونانيين لم يقبلوا بطريقته الملتوية فانتهت مهمته دون أن ينجح في تمرير أوراقه.
في اللعبة الحالية هناك طرفان أحدهما لا بد وان يكون كاذبا، إما هولبروك أو كاراجيتيش أو الاثنان معا، فالأول يدّعي انه لم يعد كاراجيتيش بعدم تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية المعنية بجرائم الحرب لمجرد الموافقة والانتهاء من حرب البوسنة بتوقيع اتفاقية دايتون، فيما يؤكد كاراجيتش عن انه اتفق مع هولبروك عبر الوسيط،أن تكون الصفقة، صفقة عدم التسليم، مقابل اختفاء كاراجيتيش والانسحاب من الحياة العامة. ما يثير الاستغراب أن تلك الصفقة لم يتم توثيقها رسميا، ما يعني أن الساسة بإمكانهم نقض وعودهم بكل سهولة متى ما تغيرت المصالح، ومن جهة أخرى تبدو مسألتان مهمتان لا بد من إجلاء سرّهما الغامض، الأول لماذا عاش كاراجيتيش حياة سرية إن لم نقل نصف سرية طالما انه ضمن من هولبروك ومن ثم قوى »النيتو« بعدم التعرض له وتسليمه؟. والثاني هل كان الاتفاق معنيا بمدة زمنية لها علاقة بطبيعة اللعبة؟
الأوراق المعلنة حاليا في وسائل الإعلام من شخصية تعيش خلف القفص بمستوى كاراجيتيش تحدد الدور الأمريكي الخفي في تحريك ماكينة الإعلام الضخمة لمحاكمة واصطياد كاراجيتش، فقد نفد صبر الاتحاد الأوربي وديمقراطيي الصرب من معوقات صرب البوسنة – التي تلعب دورا معطلاً في دخولهم في عضوية الاتحاد الأوروبي – الذين رغم أقليتهم في الإقليم يصرون على التحكم في الأغلبية البوسنية وغيرها دون مراعاة المتغيرات الدولية الجديدة في القرن الواحد والعشرين وكل ما اعترى القارة الأوروبية من تغيرات كبيرة.
ما قدمه الإعلام الأمريكي والأوربي في قضيتي البشير وكاراجيتيش لا يبعدنا كثيرا عن قدرتهما الأخطبوطية أيضا على تغيير المياه في دهاليز الأمم المتحدة، فلتلك القوتين الأمريكية والاتحاد الأوروبي المتحالفتين، مفاتيحهما الكثيرة مثل ما لهما أيضا مغاليقهما من العلاقات الخفية والمعلنة، وقد كان واضحا توقيت لعبة كاراجيتيش والبشير في لحظة زمنية واحدة »فالمواطن العالمي« العادي في زمن الثورة المعلوماتية سيجد نفسه حائرا في الورقتين وسيسأل نفسه دون شك ما الذي يدور في العالم هذه اللحظة؟ وأيهما أفضل أو اقل أو أكثرهما يستحق المحاكمة، إذ تختلط الأوراق السياسية كلما خرجت من دائرة النخب السياسية الواعية، والتي تمتلك صياغة القرار وتفسيره وتبريره!
ربما سيجد الإنسان العادي عندما يحتار في المتابعة والاهتمام يوميا بين قضيتي كاراجيتيش والبشير، انه سيفضل لحظتها قرار متابعة أخبار الأولمبياد في الصين المتهمة أيضاً بأمور كثيرة من الماكينة الدولية نفسها!
صحيفة الايام
10 اغسطس 2008