لافتة وذات دلالات تلك ‘المبادرات’ الإعلامية المندلعة منذ بعض الوقت بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما ومرشح الحزب الجمهوري جون ماكين، بخصوص السياسة الخارجية الأمريكية ومنها على وجه الخصوص تلك المتعلقة بمصير الوجود العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان.
فالمرشح باراك أوباما يؤكد أن استمرار وجود القوات الأمريكية في العراق يعتبر خطأً استراتيجياً يتوجب تصحيحه سريعاً، وإنه إذا ما انتُخب رئيساً فسوف يعمل على تقليص عديد هذه القوات من العراق وتركيز معركته على طالبان والقاعدة في أفغانستان وجوارها.
فيسارع المرشح الجمهوري جون ماكين للرد عليه باتهامه بأنه بخططه الرامية إلى سحب القوات الأمريكية من العراق إنما يعلن ‘استسلامه للعدو’!
دعونا نسلم بدايةً بأنه كلما تقدم الوقت بالمرشحين أوباما وماكين، وصولاً إلى يوم الامتحان الذي يُكرم المرء فيه أو يهان، اليوم المضروب لإجراء الانتخابات الرئاسية (نوفمبر المقبل) كلما تحول الوقت إلى سوط مشهر في وجهيهما، يلسعهما حال ‘شعوره’ بهبوط مستوى المزايدة السياسية لأحدهما أو لكليهما معاً، خصوصاً فيما يخص أكثر الملفات سخونةً وحضوراً على أجندة السياسة الخارجية للطبقة الحاكمة الأمريكية بشقيها الجمهوري والديمقراطي، وفي مقدمها قضايا أفغانستان والعراق وفلسطين وإيران.
أوباما وحزبه الديمقراطي اللذان صدّعا رؤوس الأمريكيين طوال الفترة الماضية بمزايداتهما على إدارة بوش والحزب الجمهوري فيما يتعلق بإجلاء القوات الأمريكية من العراق، تراهما اليوم قد انتحيا أكثر فأكثر جانب المراوغة والمخاتلة السياسية. فهما لا يريدان أن يبدوان، مع اقتراب موعد الحسم الذي يكون فيه الكلمة الراجحة ‘لهوامير’ ممولي الحملات الانتخابية وصانعي الرؤساء، أقل عسكرتارية من نظيريهما الحزب الجمهوري ومرشحه جون ماكين.
جون ماكين نفسه الذي ظل يحرص خلال عام 2006 على وضع مسافة بينه وبين المحافظين الجدد (Neocons) الذين تحولت لهم الكلمة العليا في الحزب الجمهوري وفي الإدارة الأمريكية منذ مجيء فريق بوش-تشيني إلى السلطة في عام ,2001 وتذكير محاوريه من الإعلاميين الذين التقوه آنذاك بأنه ينتمي إلى مجموعة الواقعيين (Realists) في الحزب الجمهوري مثل: برنت سكوكروفت، جون ماكين، هذا ومنذ أن ضمن اختيار الحزب الجمهوري له كمرشح للرئاسة عن الحزب وهو لا يفوت فرصة لإثبات ولائه التام لهذه الجماعة الإيديولوجية ‘اللاهوتية’ المتطرفة التي تحكم قبضتها على المسارين السياسي والاقتصادي للدولة الأمريكية زهاء ثمانية أعوام. كما إن مجموعة المستشارين المحيطين به ينتمون إلى الجماعة إياها، ناهيك عن تبنيه لعقيدة المحافظين الجدد المتمثلة في ضرورة تركيز السياسة الخارجية الأمريكية على تحويل تلك الأنظمة الأوتوقراطية والدول المتشددة إلى ديمقراطيات تستظل برعاية الولايات المتحدة.
وهو منذ ذلك الحين لم يعد يضع نفسه في عداد الواقعيين داخل الحزب الجمهوري ولم يعد يستخدم اسم برنت سكوكروفت في لقاءاته الإعلامية لتأكيد هذا الانتماء.
أما منافسه باراك أوباما فبحسب إيلي ليك (Eli Lake) الذي كتب في نيويورك صن الليكودية، مقالاً بعنوان: ‘توقعات معاكسة’ (Contra Expectations)، فإن ‘أوباما ليس جيمي كارتر وإنما هو رونالد ريغان’. وهو -أي إيلي ليك- بناءً على معرفته واحتكاكه باثنين من أبرز مستشاري أوباما وهما ريتشارد كلارك وراند بيرز، يخلص إلى أن أوباما قد يكون ‘نيوكون’ (Neo-Con) أي محافظ جديد في صورة أقرب إلى اليمينية المتطرفة كيرك باتريك التي بنت شهرتها من خلال تطاولها على سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الخاصة بحقوق الإنسان وتبنيها لمذهب الأوتوقراطيين الأصدقاء. وبحسب إيلي ليك فإن أوباما يمكن أن يكون أقل سذاجةً وتردداً في استخدام القوة من الجمهوري ماكين.
مثل هذه الانطباعات والقراءات الأمريكية لشخصيتي المرشحين ليست ظاهرة على السطح، حتى الآن على الأقل. وهي تبقى -كي نكون منصفين- انطباعات وحسب، ليست بمنحى عن أهواء وأمزجة وتوجهات أصحابها.
إلا أنها لا تبتعد كثيراً عن الواقع الذي راكمته التجربة التاريخية التي أفرزتها لنا سياسات الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية (المحصورة طبعاً في حزبين اثنين وهما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) وتطبيقاتها النمطية الملتزمة بالتعبير عن مصالح الطبقة السوبر التي أتت بهم إلى المنصب الأرفع في الحياة الأمريكية.
وعلى ذلك لم يشذ أي رئيس أمريكي عن قاعدة التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل وعن دعمها والدفاع عنها بكل الوسائل وهو ما ينطبق على موقف تلك الطبقة الأوليغارشية من الاتحاد السوفييتي السابق ومن كوبا وكوريا الشمالية وإيران والعراق قبل الغزو وسوريا والآن من قضية نشر الدرع الصاروخية في كل من بولندا وجمهورية التشيك… الخ.
والحال أن كلاً من المرشح الجمهوري جون ماكين والمرشح الديمقراطي باراك أوباما يدركان أن مزايداتهما ما قبل الانتخابات الرئاسية غير ملزمة لهم لأنها غير ملزمة للطبقة التي ستأتي بأحدهما لخدمتها. فلا غرو أن تشهد الأسابيع المقبلة ارتفاعاً محسوساً في حمى هذه المزايدات.
وقد رأينا كيف عمد باراك أوباما إلى رفع سقف هذه المزايدات عمداً خلال جولته الخارجية التي شملت 8 دول هي: العراق وأفغانستان وإسرائيل والأردن والكويت فيما تسميه واشنطن الشرق الأوسط الكبير، وألمانيا وفرنسا وبريطانيا في القارة العجوز، وخصوصاً موقفه من إسرائيل التي اعتبرها معجزة ووجه منها تهديدات صريحة لإيران.
ولم يتأخر رد جون ماكين المزايد على هذا الموقف، فحين سُئِل هل سيقوم بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس في حال وصل إلى البيت الأبيض رد بالإيجاب، وعند سؤاله عن موعد ذلك قال ‘فوراً’. ورداً على سؤال عما إذا كان يؤيد هجوماً إسرائيلياً على إيران أجاب بأنه لن يناقش أموراً افتراضية ولكنه تابع ‘يمكنني أن أقول التالي: إن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بضمان عدم حصول محرقة ثانية. هذا الأمر سيكون من بين مهماتي كرئيس للولايات المتحدة’.
ويخال لمَن يستمع إلى مزايدات الرجلين وهما يقذفان بها من دون حرج، ربما لمجانيتها، أنهما يملكان الحيز الكافي من الخيارات التي تتيح لأحدهما إذا ما فاز بالكرسي الرئاسي، تحقيق وعوده.
أما الواقع فهو ليس كذلك، فإننا لو تأملنا تصريحات أوباما في أوروبا وتحديداً في لندن، فسنجد أنه أفصح عملياً عن المأزق الذي تجتازه القوات الأمريكية في أفغانستان عندما شدد على ضرورة قيام أوروبا بزيادة مساهمتها العسكرية في أفغانستان قائلاً: ‘أود بوضوح أن يتم تقاسم بعض العبء’. علماً بأن ألمانيا وكندا وحتى فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والأطلسية رفضت مراراً الاستجابة لطلب الولايات المتحدة زيادة عديد قواتها في أفغانستان لاسيما في المناطق الجنوبية الساخنة.
كما إن اعتراف أوباما في لندن ‘بأنه مقتنع بأن كثيراً من القضايا التي نواجهها في الداخل لن تحل بفاعلية إلا إذا كان لدينا شركاء أقوياء في الخارج’ يؤكد محدودية الخيارات التي يزايد عليها هو ومنافسه الجمهوري جون ماكين.
صحيفة الوطن
9 اغسطس 2008