المنشور

وجوهنا وحدها تُشبهنا

حين نعود إلى ألبومات الصور القديمة التي‮ ‬جمعتنا‮ ‬يوماً‮ ‬مع آخرين،‮ ‬في‮ ‬أمكنة وأزمنة مختلفة،‮ ‬تنتابنا مشاعر فياضة‮. ‬كلما قدمت الصورة،‮ ‬نأت اللحظة التي‮ ‬صُورت فيها بعيداً،‮ ‬وازداد الفضول في‮ ‬أنفسنا لرؤية ما الذي‮ ‬خلفه الزمن على أجسادنا وأرواحنا من ندوب‮. ‬ الصورة التي‮ ‬تعود لعشر سنوات ماضية أو عشرين سنة‮ ‬يمكن أن تثير في‮ ‬النفس ذلك الشلال من الأسئلة والتداعيات عن أين كنا وأين أصبحنا‮.  ‬أذكر صديقاً‮ ‬قديماً‮ ‬لفت نظري‮ ‬مرة إلى ملاحظة أظنها دقيقة تماماً،‮ ‬قال إن أي‮ ‬إنسان حين‮ ‬يُحدق في‮ ‬صورة جماعية تجمعه وآخرين فإن أول ما تقع عليه عينه هي‮ ‬صورته هو بالذات‮.  ‬ لدى الناس فضول كبير لرؤية ذواتهم منعكسة على مرآة أو مطبوعة على ورق مقوى هو الذي‮ ‬نسميه الصورة‮.  ‬وإذ نعود لصورنا القديمة فأول ما نفعله هو التحديق في‮ ‬أنفسنا التي‮ ‬كانت،‮ ‬في‮ ‬صورتنا‮.  ‬ حينها تتداعى الصور والأفكار،‮ ‬ها نحن في‮ ‬وضعٍ‮ ‬يمكننا من ملاحظة ما الذي‮ ‬فعلته السنون فينا،‮ ‬ما الذي‮ ‬غيرته من الملامح وخلّفته في‮ ‬الروح‮. ‬ثم تأخذ العينان في‮ ‬التنقل بين من هم معنا في‮ ‬الصورة،‮ ‬وهنا أيضاً‮ ‬يشغلنا السؤال عن المصائر التي‮ ‬أحاقت بهؤلاء‮: ‬أين هم الآن،‮ ‬قبل أن‮ ‬ينثال شريط الذكريات عن الأزمنة التي‮ ‬مرت والأحلام التي‮ ‬كانت‮.‬ أكثر الصور مدعاة للفضول هي‮ ‬صور أطفالنا‮.  ‬حين تفاجأ بأن قامة ابنك اليوم هي‮ ‬في‮ ‬مثل قامتك وربما أطول فإن صورته وهو في‮ ‬المهد،‮ ‬أو وهو‮ ‬يلهو بألعابه في‮ ‬سنوات طفولته الأولى،‮ ‬أو صورته مع زملائه وزميلاته في‮ ‬سنة أولى روضة هي‮ ‬ذلك الصاعق الذي‮ ‬يفجر مخزون الذاكرة،‮ ‬ويتركه‮ ‬ينثال عن حكايات وانطباعات‮.‬ يا الله‮! ‬أيعقل أن ذلك كان منذ زمن بعيد،‮ ‬وإن هذا الزمن مر بالجوار دون أن ننتبه،‮ ‬وإن هؤلاء الذين كانوا قبل ومضة عين أطفالاً‮ ‬في‮ ‬المهد،‮ ‬أو أطفالاً‮ ‬يلهون بألعابهم مع أقرانهم قد كبروا حتى باتوا‮ ‬يضاهونك في‮ ‬القامة ويحرجونك بالأسئلة الصعبة التي‮ ‬لا تستطيع أن تجيب عليها،‮ ‬ليس لأنك لا تريد وإنما لأنك ببساطة شديدة لا تعرف‮.‬ إذا كانت صورة الأطفال،‮ ‬أطفالنا تحديداً،‮ ‬هي‮ ‬مدعاة الفضول،‮ ‬فإن صورة من نحب هي‮ ‬الأكثر مدعاة للحيرة والتأمل‮. ‬إن صورته،‮ ‬أو صورتها،‮ ‬تستحثك على التحديق،‮ ‬في‮ ‬الملامح وفي‮ ‬تفاصيل التعابير،‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يشبه الاستغراق التأملي‮ ‬الصوفي‮. ‬صورة الحبيب هي‮ ‬طيفه،‮ ‬هي‮ ‬توقيعه الذي‮ ‬لا‮ ‬يُمحى في‮ ‬النفس‮.‬ لا أعرف من القائل‮ »‬إن وجوهنا وحدها تشبهنا،‮ ‬وحدها تفضحنا‮«‬،‮ ‬الوجه هو المدخل الأثير للنفس،‮ ‬للروح،‮ ‬والصورة زمن،‮ ‬ولأن الزمن في‮ ‬سيرورة أبدية لا تعرف التوقف هكذا دونما نهاية،‮ ‬فإننا ابتكرنا الصورة خديعة ذكية كي‮ ‬نُوهم أنفسنا بأننا أخذنا من اللحظة الهاربة ملمحاً‮ ‬نبقيه زوادة للقادم‮.‬
 
صحيفة الايام
9 اغسطس 2008