تغيرت التشكيلة العربية الاقطاعية منذ تكونها في المرحلة الأموية حتى الآن تغيرات داخلية غير تحولية بالكامل، فظلتْ الأسسُ التكوينية الكبيرة هي ذاتها، وهو أمر لم يستطع الباحثون كشفه لكثرة التعقيدات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية المحيطة به. وتعتمد التشكيلات الشرقية عموما، المماثلة في جوانب معينة فقط للتشكيلات الغربية، على سيطرة جهاز الدولة على الاقتصاد، وهو أمر حاسم وتاريخي مديد بها، لضخامة الدول الآسيوية واعتمادها على النشوء المبكر للدول بسبب الأنهار والري والتحكم في الفيضانات. ولهذا كان الاقطاعُ العربي قد نشأ بسبب تبدل طبيعة الدولة المسيطرة في الجزيرة العربية التي عاشت نموذجا محدودا للاقتصاد وتبنت سياسةَ توزيع للثروة المصادرة من المشركين ومن الدول المهزومة، فتحولت الدولةُ إلى أداة لضبط الصراعات الاجتماعية وحماية الفقراء، إلى أن انقلبت فصارت دولة لكبار الملاك وللأسرة الاقطاعية الأموية، فظهرت التشكيلة في خضم هذين التحول والصراع. وإذا كانت الدولة الأموية أقرب للبداوة فإن الدولة العباسية اعتمدت على شكل واسع من التحضر، وعلى نمو كبير للعلاقات البضائعية والمالية كما سبق القول، إلا أن سيطرة الدولتين على الملكية الزراعية الكبرى والتحام الأسرة الحاكمة بجهاز الدولة، كان هذا هو ملمح الاقطاع السياسي عندهما. ولا يبدل من طبيعة النظام مدى اتساع العلاقات التجارية فالأخيرة تغدو محكومةً بطبيعة النظام، فتنمو ثم تضحمل وتكاد أن تهلك بسببه، ومهما كانت طبيعة النظام امبراطورية أو محلية، فإن الكبر أو الصغر الجغرافي، لا يبدل في طبيعة النظام الجوهرية. مثلما أن كثرة أو قلة السكان أو توسع العلاقات مع العالم الخارجي أو تضاؤلها، أو تبدل العلاقات السياسية داخل النظام نفسه من شورى أو تسلط، أو أن حكامه دينيون أم مدنيون، فذلك لا يغير التشكيلة، فالتشكيلة تتغير حين تنفصل ملكية الإنتاج الأساسية عن جهاز الدولة وعن المتحكمين به، وتصبح في التداول البضائعي الحر، فتزول الطبقات التي تعتمد على دخلها من الحكم. هذا الفارق (البسيط) هو ما يميز تشكيلتين متقاربتين في سلم التطور التاريخي، هما الاقطاع والرأسمالية. وإذا كانت التشكيلات في الغرب قد اعتمدت على ضعف الدول المركزية نظرا إلى صغر القارة الأوروبية التي لم تشهد ظاهرة الأنهار الكبيرة وعمليات الري المبكرة ونشوء الدول الاستبدادية الدائمة، كما وضح ذلك في نشوء الحضارة الإغريقية حيث المدن المتعددة، ثم تكرس ذلك ثانية في ضعف الاقطاع الأوروبي وتناثر ممالكه، مما أدى إلى اختراق الطبقات البرجوازية هذه الثغرات التاريخية وشكلت النظام الرأسمالي. ولكن التطور في الشرق يعتمد على أجهزة الدول، سواء بريادتها لعمليات التحضر أم في خلقها للتدهور على السواء، فأخذت التشكيلات تتجاور، فلم يتمكن العرب وهم يؤسسون نظاما اقطاعيا مركزيا كبيرا من القضاء على علاقات العبودية، كما أنهم وسعوا العلاقات الرأسمالية التجارية لكن لم يقضوا على الاقطاع. وهكذا فإن الدول المستعمرة الأوروبية وهي تتسلمُ جثةَ الحضارة العربية عمدت على تقوية أجهزة الدول وربطها بالملكيات العامة سواء كانت ملكية قطن أم نفط، بحيث تحافظ على البناء الاقطاعي ومخلفاته التراثية والاجتماعية، وعلى رابطة مداخيله وأنماط اقتصاداته بسيطرتها وبعلاقات إنتاجها. فالاقطاع المصري الاقتصادي ينتج لها القطن في زمنية خاصة من التطور اعتمدت على نقل المواد الخام الثمينة للصناعة الإنتاجية والاستهلاكية الغربية، لكن القطن لم يعد ذا قيمة في التطور الصناعي الغربي اللاحق، فالثورة التقنية جعلت السيطرة على المواد الأولية القديمة كالقطن والفوسفات غير ذات قيمة تاريخية، فعملتْ ثوراتُ التحرر الوطني والثورة الصناعية العلمية الغربية على تبدل نظام السيطرة على الدول في العالم الثالث. وبطبيعة الحال فإن النفط كمادة خام ثمينة خرج من لوحة المواد الخام العالمية بسبب دوره الكبير في الصناعة والنقل، مما زاوج نظام السيطرة على العرب والمسلمين من سيطرة مباشرة وسيطرة غير مباشرة معا. إن حفاظ الدول الغربية على التركيبة الاقطاعية العربية إذاً جرى منذ الاحتلال الأول للعرب، ولم تستطع الثورات الشعبية والحكومات العسكرية أن تلغي هذا الطابع، مثلما أن الدولة العباسية بتوسعها البضائعي لم تحول كليا طابع الدولة البدوية الأموية، كما أن الحكومات الجمهورية العربية جلبت أسرا حاكمة جديدة واستمرت عملية التداخل بين أسر الضباط الحاكمة والمصالح الاقتصادية الكبرى في الدول، مثلما هو حاصل في الدول الملكية، فحدث استنساخ للماضي، وليس ذاك لسوء طبع هذا الحاكم أو ذاك، ولكنه نظام تاريخي ذو جذور اقتصادية عميقة. ومع هذا فإن كم التحولات المالية والبضائعية المعاصرة كبير وعالمي ويحتاج إلى تفكيك أسراره الداخلية لمعرفة أين هي بنية المجتمع التقليدي؟ وأين هي عمليات التحول الرأسمالية؟ وإذا ما كانت قد اخترقتْ وحولتْ الهيكل العتيق؟ فعلينا التفريق بين التشكيلة والنظام السياسي، فالتشكيلةُ أكبر من الأنظمة، وقد تتعدد الأنظمة في ذات التشكيلة، لكن لابد من ظهور نظام عربي جديد يمثل تراكمات التطور ويقوم بإحداث النقلة النوعية والخروج من التشكيلة التقليدية. ولكن التطورات الاقتصادية العربية الغنية لم تأت اثر تراكم بل جاءت في مناطق لم تشهد تطورات رأسمالية كبيرة، وأغلبها بيئات بدوية، فهذا سيجعل البضاعة الجديدة المحورية (النفط) تنشد للوراء ولتأثيرات التشيكلات ما قبل الرأسمالية بصورة أكبر.
صحيفة اخبار الخليج
8 اغسطس 2008