كان اعتماد المجتمع العربي على أشكال العمل ما قبل الرأسمالية بصورة واسعة، كاستخدام الرقيق، لكن استخدام الرقيق هذا كان يعبرُ عن رفض الجمهور العربي العمل بصورة مأجورة. فسادت الأملاكُ الخاصة سواء كانت تملكا للسلع التجارية أو للأراضي الزراعية وغير ذلك من ضروب النشاطات الاقتصادية، وغدا عمل الرقيق هو المجال الواسع لإدخال العمل ما قبل الرأسمالي الشديد التخلف إلى العلاقات الاقتصادية الذي يعرقل نمو قوى الإنتاج والتقنية والعلوم. ومن هنا كانت أشكال قوى العمل منبثقة من العلاقات الاقطاعية كاستئجار الأرض ودفع ريع نقدي أو عيني أو كليهما، وهو شكلٌ من العمل عرقل ظهور العمل بالأجرة. كما خيم عبر القرون على المناطق الريفية فأشاع الركود الاقتصادي والتدهور الإنتاجي.
حتى لو كان الفلاحون متضامنين ويعملون بشكلٍ مشترك فإن ذلك يحولهم إلى رقيق للأرض، عبر هذا النزف لموردهم وعبر ارتفاع بعض الفئات التابعة للسلطات التي تستفيد من السيطرة على هؤلاء، في حين يتدهور وضع الفلاحين ويبقون على شفا المجاعة ويعجزون عن تطوير أولادهم، وهذا كله جعل الريف المصدر الثاني للإقطاع العربي إضافة إلى المصدر الأول وهو النظام السياسي الحاكم. وتبقى العلاقات التجارية غير قادرة على خلق نظام رأسمالي واسع وعميق في البناء العربي التقليدي، بسبب تركزها على البضاعة المادية أي على السلع، في حين عجزت عن تحويل قوة العمل إلى سلعة واسعة، فالتاجر يستخدم الرقيق أو الخدم أو العاملين بالأجرة، ويحدث ذلك عند التجار الكبار عادة، أما التجار الصغار فإنهم يعملون بأنفسهم وباستخدام أولادهم غالبا، ولهذا فإن التاجرَ الكبير يخلطُ تجارته المادية بالتجارة في البشر، وهناك صنفٌ مخصص لهذه التجارة المدمرة على المستوى البعيد، فهي أحد العوائق الكبيرة لتطور التقنية. ولكن أهم عائق هو ارتباط التاجر بالحكم وتوريده السلع الثمينة المعبرة عن البذخ التي تؤدي إلى انهيار النظام الاقتصادي التجاري في خاتمة المطاف، وهو ما ينعكس على مصالح كبار التجار الذين يكونون عرضة للمصادرات مع أزمة النظام النقدية. إن العملةَ الذهبية «يضطردُ« خروجُها من الامبراطورية الإسلامية عبر هذا النزف الاقتصادي، وهنا تظهر المناطق التجارية المستفيدة من ذلك سواء في الهند أو الصين أو مدن إيطاليا، ولا تحل المصادرات أو استنزاف القرى بالخراج أو الأهالي بالمكوس أزمة النظام المتمثلة في بذخه الهائل وتضخيم جيشه بشكل مستمر للرد على معارضة الأهالي لتزايد غبنهم، وهنا تنحل المشكلات بتفاقمها، حيث يقوم ولاة بالتمرد وباقتطاع ما في حوزتهم من أراض وقطائع يعتبرونها حكماً لأسرهم، ويكررون دور النظام نفسه في المركز ليتمرد عليهم آخرون، أو تقوم قبائل الصحراء بإعادةِ نموذجِ الأسر الحاكمة برفد سكاني جديد وبدورة مماثلة على المدى البعيد، وهذا ما يجعل التدهور الاقتصادي في المركز ينتقل إلى الاقاليم. إن عدم نمو العمل بالأجرة بين القبائل العربية كان عاملا مساعدا على عدم تفككها، وعدم ظهور صراع طبقي قوي داخلها، مما حافظ على بنية القبيلة التقليدية، وأعطت الفتوحُ إمكانية كبيرة لهذا الجسم الاجتماعي القبلي أن ينتقل للمدن من دون أن يحدث فيه بعض التمايزات، مما حافظ فيه على المشيخة وعاداتها، وعلى كره العمل اليدوي، لكن إلى حين. لكن الغياب الواسع للعمل بالأجرة وعجز الرأسمال التجاري الكبير عن تطوير الحرف إلى صناعات، والتدهور الحاصل في الإنتاج وتفاقم البذخ والعسكرة على مستويات الامبراطورية الممزقة كافة، كل هذا يؤدي إلى تحول قوى العمل إلى الأنشطة الطفيلية كذلك كالتسول والدروشة التي تغدو واسعة ومرتبطة بتدهور العقلانية وتتوسع فرق «الشطار والعيارين« واللصوص والعاطلين الخ… لقد اتاح النظام الإقطاعي المركزي مستوى كبيراً لتطور التجارة، وهو ما تجلى في عهود النهضة العربية، لكن تم خنق التجارة عبر عجز الدولة عن السيطرة على مداخيلها، وتنامي هذه المداخيل على حساب ضبط الري وتحسين الزراعة وتطوير الحرف، فأدى هذا إلى زيادة الضرائب وتقطع سبل التجارة والتفكك الداخلي، وهذا ما جعل القوى الأوروبية التجارية الصاعدة المخلوقة من الرفد العربي الاقتصادي السابق، تمسك زمام المبادرة التجارية والاقتصادية عموما. لقد قادت التجارة البحرية خاصة إلى اكتشافات علمية واقتصادية وغذت المدن المختلفة بالبضائع فوسعت الإنتاج لكن نظام الحاكم أهدر هذه التراكمات المالية في أنشطة غير اقتصادية وغير منتجة.
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2008