التحدي البيئي والصحي والغذائي
منذ انطلاقة أول دورة اولمبية في التاريخ المعاصر ربما لم تواجه مدينة في العالم من المدن التي احتضنت الاولمبياد تحدياً صحياً وبيئياً كالذي واجهته بكين العاصمة الصينية، ولاسيما ان اولمبياد بكين الوشيك يجرى متزامناً في ظل أسوأ ظروف بيئية تشهده الكرة الارضية بسبب الاحتباس الحراري وما يشهده العالم من مخاطر بيئية صناعية مختلفة ومتعددة جسيمة تهدد كوكبنا، وفي ظل ايضاً تعاظم شوكة ونفوذ منظمات حماية البيئة العالمية ومنذ البداية واجهت بكين ومازالت تواجه ضغوطا دولية حول مدى مناسبة مناخها وبيئتها لتنظيم الدورة الاولمبية الجديدة، وان كانت بعض هذه الضغوط مضخمة وموظفة لخدمة الحرب النفسية التي يشنها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ضد بكين في اطار التسييس المفروض على الدورة.
مما لا شك فيه ان التلوث الذي تشهده سماء العاصمة هو حقيقة قائمة لا ريب فيها بسبب العدد الهائل من المركبات التي تسير في شوارعها والمصانع والورش المحيطة بها وأعمال الانشاءات الكثيفة، لكن لا احد قدم احصائيات دقيقة عما اذا كان هذا التلوث هو الأسوأ مقارنة بالعواصم والمدن الاخرى التي اقيمت فيها الدورات الاولمبية السابقة. وبطبيعة الحال فإن الصين ادركت هذا التحدي الذي يواجه سمعة عاصمتها منذ لحظة فوزها باستضافة الاولمبياد، ومن ثم فإنها جندت كل طاقاتها وامكانياتها لتنقية هواء المدينة وتقليل نسبة التلوث في اجوائها وشوارعها قدر المستطاع. وقد بلغت هذه الجهود ذروتها خلال الشهور القليلة الماضية حتى تمكنت بكين من تقليل مؤشر التلوث الى اقل من 100 نقطة وبمساعدة الرياح المتذبذبة الخفيفة التي تهب عليها بين حين وآخر وهنالك مخاوف كبيرة من هطول امطار غزيرة اثناء الدورة وعلى وجه الخصوص يوم الافتتاح لكن بكين واعتماداً على السجلات التاريخية لارصادها المناخية ترد بأن نسبة توقع هطول الامطار في يوم الافتتاح الموافق 8 اغسطس لا تتعدى 41%. وتأمل الصين في ان تسهم خطتها المرورية الكبيرة لتقليل عدد المركبات في شوارع العاصمة خلال الاولمبياد في تحقيق هدف مزدوج، تقليل الاختناقات المرورية من جهة، وتخفيض نسبة التلوث من جهة اخرى. كما قامت الحكومة باغلاق مجموعة كبيرة من المصانع المسببة للتلوث كمصانع الصلب، وتم ايقاف وتجميد اعمال الانشاءات والبناء الكبيرة حتى انتهاء الاولمبياد. ومع ذلك فإن مسألة التلوث مازالت تبرز كأكبر سلاح في الحرب النفسية التي يشنها الغرب على بكين، هذا مع العلم ان جانباً موضوعياً مناخياً بيئياً يساهم في الشعور بتلوث الهواء لا دخل للمدينة او لا ذنب لها فيه ان جاز القول ويتعلق بطبيعة مناخ المدينة الرطب الحار خلال شهري يوليو واغسطس وتكاثف الضباب والغيوم من جراء ذلك ناهيك عن سقوط الامطار المتواصل، كما تم التقليل من استخدام المكيفات. على الصعيد الصحي والغذائي، فإلى جانب تلوث الهواء تواجه الصين تحدياً لإظهار شوارع العاصمة ومناطقها التجارية والسياحية الهامة في أبهى صورة حيث ستكون أمام مرأى زوار الاولمبياد لدى تنقلاتهم اليومية. وفي هذا الصدد قامت الصين بأكبر عملية تنظيف وتزيين غير مسبوقة لم تقم بها ربما أي دولة اخرى استضافت الاولمبياد، بل لم تشهد بكين طوال تاريخها على مدى قرون طويلة حملة كهذه استهدفت تنظيفها وتأليقها. كما تم القيام بأكبر حملة توعية صحية بين سكان المدينة للمحافظة على نظافتها ومن ذلك التوقف عن عادة البصاق واتخاذ اجراءات صارمة وغرامات بحق المخالفين، وكذلك منع رمي الاوراق او المخلفات في الطرقات. وفي سياق اظهار المظهر الحضاري العصري لسكان العاصمة امتدت حملات التوعية لتشمل تفادي ارتداء الازياء ذات الالوان المتعددة او انتعال الاحذية السوداء مع جوارب بيضاء او الخروج بملابس النوم في الشارع، واحترام الطوابير والاصطفافات المنظمة، بما في ذلك طريقة ركوب القطارات والمترو والحافلات، واللباقة في المصافحة مع الاجانب من دون اطالة المصافحة أو الاقتراب اكثر من اللازم من جسم الزائر وتحاشي الحديث في الامور الشخصية مع الزوار كالاستفسارات الفضولية التلصصية عن اعمارهم او وضعهم الاجتماعي او مدخولهم او عنوانهم وكل ما يمت بصلة الى خصوصياتهم الشخصية وعقائدهم الدينية والسياسية. كما تحض كتيبات التوعية المشجعين الصينيين على الظهور بالمظهر الحضاري الراقي المتوخي الروح الرياضية بعيداً عن مظاهر التعصب المقيت او الانسياق الى الاجواء العاطفية المشحونة في الملاعب التي قد تفضي الى ارتكاب أعمال عنف متبادلة خلال الدورة مهما كانت الظروف والمسببات التي قد تلحق بفرقهم المشاركة، ولا بأس من تشجيع كل منتخبات الدول التي تثبت تفوقها الابداعي والفني عن جدارة. اما من حيث التغذية والوجبات فمازالت الصين تواجه تحدياً كبيراً في اثبات جدارتها بتوفير وجبات تتلاءم مع اذواق ومعتقدات عشرات الوفود الرياضية القادمة من بلدان ذات ثقافات وعادات مختلفة، ولاسيما ان الطعام الصيني لم تتعود على استساغته ومذاقه معظم شعوب العالم بعد. هذا الرغم من ان الصين بذلت قصارى جهودها في المؤسسات السياحية من مطاعم وفنادق، وفي المؤسسات الاولمبية (القرى الاولمبية) لتحقيق هذه الغاية. وكانت الولايات المتحدة اول من أظهر للصين تبرمها من الوجبات المقدمة في القرية الاولمبية على الرغم من ان هذه الاخيرة قد حشدت فريقا ضخما من الطهاة والمساعدين يصل الى 2700 عامل فندقي و4 آلاف طالب متطوع. وأخيراً ثمة بعد صحي آخر عادة ما يلازم كل دورة أولمبية ويتمثل في محاربة المنشطات الرياضية لضمان صحة اللاعبين وتحقيق المنافسة الندية المتكافئة بين الفرق. وقد اتخذت بكين سلسلة من الاجراءات الصارمة لمكافحة تجارة بيع المنشطات على اختلاف انواعها وفرضت رقابة مشددة على بيع وتداول مادة الانفتامين. كما فرض على جميع مصانع الادوية وضع ملصقات على انواع الادوية كافة تحذر من بيعها للرياضيين خلال الاولمبياد، لكن هل ستتغلب كل هذه الاجراءات الصارمة على فنون التحايل عليها سواء من داخل الصين ام من خارجها؟
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2008