كان في جزيرة العرب طريقان للتجارة (أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس براً، ثم يجاوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام) (والطريق الثاني هو الأهم وهو غربي يصل اليمن بالشام مجتازاً بلاد اليمن والشام ناقلاً أيضاً بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة والهند عن طريق البحر)، (كتاب أسواق العرب، ص9). من المدن التجارية المهمة في العصر القديم (تيماء: المحطة الكبرى العامة شمالي الحجاز مروراً بسلع وبُصرى وتدمر ودمشق).
(كان للعرب دراية بالملاحة منذ القرن العاشر قبل الميلاد)، (عن تاريخ العرب الأدبي نيكلسون) ويضيف: (وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعلهم يفضلون الطريق البري). (كانت القوافل تقوم من شبوت في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ ثم تتجه شمالاً إلى مكربة (مكة) وتظل في طريقها من بترا حتى غزة). (كان الحميريون هم المسيطرون على التجارة جاعلين العرب الحجازيين عمالاً عندهم حتى قبيل البعثة) (السابق ص 11). (منذ القرن السادس انتقلت التجارة تدريجياً من اليمنيين إلى قريش). قال الألوسي: (وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة لما في بلادهم من الخصب والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة)، ص 11(على أن لطيء ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب). (وقدّر بعضُهم ما يشتريه العالمُ الروماني من طيوبِ بلاد العرب والفرس والصين بقيمة مائة مليون من الدراهم) السابق ص .12 وتعبيراً عن التبادل المناطقي الواسع قالوا:(برود اليمن وريط الشام وأردية مصر).ومن أقوالهم:(الطائف مدينة جاهلية قديمة وهي بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة). أما(هجر والبحرين فهي متجر التمر الجيد). كان التجار يُسمون السماسرة فجاء الإسلامُ بكلمةِ معشر التجار. وهناك اسماء أعجمية وَرَدتْ للعرب تحملُ أسماءَ البضائع:(الصنج والصولجان والفيل والجاموس والمسك وخصوصاً أنواع النسائج كالديباج والاستبرق والابرسيم والطيلسان) السابق ص .18 وتعرفنا بعض الكلمات الأعجمية التي عُربت وصارت جزءاً من التسميات العربية على تغلغل العلاقات البضائعية في الحياة الجاهلية مثل:(ترف وجزية ودرهم وفندق وقارب ولص).سردَ هذه الكلمات بندلي جوزي في بحثه (بعض اصطلاحات يونانية في اللغة العربية) في مجلة مجمع اللغة العربية 3 / 330 نقلاً عن المصدر السابق، ص 19). قال معاوية لصوحان صف لي الناس فقال: خُلق الناسُ أطيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق. وقد عرف العربُ سندَ الملكية(طابو) والعقود. ومن كتاب المحاسن والأضداد نقرأ( إن العديد من رؤساء قريش كانوا باعة وحرفيين). وتعددت البيوع عندهم مثل: بيع الغرر، أي بيع ثمر النخل والشجر مدة عام أو عامين وهو مرفوض دينيا. بيع التصرية وهو عدم حلب الناقة فترة من أجل أن تمتلئ وهو شكل من التحايل. البيع الناجز وهو البيع الصحيح يداً بيد. (في البدء كانوا يتعاملون بالمقايضة ثم تعاملوا بنقود الروم والفرس، الدنانير والدراهم، ويقدر الدينار بعشرة دراهم، والدرهم يساوي عشرة قروش مصرية) ( حسب زمن المصدر 1960) ويدل هذا على ضعف تطور العلاقات البضائعية – النقدية، ثم نموها عبر تنامي إنتاج القبائل عبر مئات السنين، واستمرار سيطرة الفرس والروم السياسية، فكان فائض ما ينتقل من الجزيرة للإمبراطوريتين، ثم غدت نقودهما نقودَ الامبراطورية الإسلامية التي ورثت الهيكل الاقتصادي – السياسي العبودي – الإقطاعي من دون أن يستطيعَ التراكمُ المالي أن يؤدي إلى المرحلة الرأسمالية. وجاء لدى المقريزي ان أول من ضرب السكة عمر بن الخطاب على نقود فارسية مع كلمات عربية إسلامية. وكان لديهم (المكس) وهو أخذ العشر من باعة السوق والمكس في اللغة النقص وفي البيع انتقاص الثمن. قال الشاعر: ( أفي كل أسواق العراق أتاوة/وفي كل ما باع امرؤ مكس درهمِ) وحول الاستغلال وتراكم الأموال، جاء في خزانة الأدب (كان أحيحة بن الجلاح كثير المال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا في المدينة). عُرف بعض الصحابة باستخدام الربا كخالد بن الوليد وعثمان بن عفان وحين جاء الإسلام تركا الربا بطبيعة الحال، وكان الرهن يصل إلى رهن البشر مما يعبر عن كوابح تطور العلاقات البضائعية النقدية وانغمارها بعلاقات العبودية وقتذاك. وهناك ربا الأضعاف المذموم بشدة في القرآن «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة« آل عمران 3، وهو أمرٌ يعبرُ عن هدف سياسي هو زعزعة سيطرة القبائل اليهودية على المدينة وعلى العرب، وقد أخذ الفقهاءُ هذا الحكم كحكمٍ مطلق وليس نسبيا، ثم جاء فقهاء حاولوا تجاوز هذه الإشكالية عبر ما سمي فقه(الحيل). وهذا كله يبين استمرارية تنامي العلاقات البضائعية – النقدية لدى العرب رغم الكوابح الطبيعية الهائلة والشظف والتحكم السياسي الجائر في عصور الدول الاستبدادية.
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2008