المنشور

من الجيل الجديد وعنه

جرت العادة أن الجيل الأكبر‮ ‬ينظر إلى الجيل،‮ ‬أو الأجيال التي‮ ‬تليه على إنها أقل شأنا منه‮. ‬وغالبا ما‮ ‬يقول الكبار موجهين الحديث لمن هم اصغر سنا‮: »‬كنا أكثر جدية منكم وأكثر مثابرة،‮ ‬ولو توفرت لنا الفرص المتاحة لكم اليوم لكنا‮… ‬وكنا‮…« ‬الخ‮.‬ والحق أن هذه الروح الأبوية تبدو لازمة لدى الأجيال الأسبق عادة،‮ ‬لأننا في‮ ‬صغرنا سمعنا كلاماً‮ ‬مشابهاً‮ ‬من آبائنا‮. ‬لكن الحياة تقدم برهانها إن الأجيال الجديدة،‮ ‬كقاعدة،‮ ‬هي‮ ‬أجيال أكثر ذكاء وأكثر معرفة،‮ ‬وان ما توفر لها من ظروف تنشئة أفضل‮ ‬يجعلها،‮ ‬في‮ ‬الإجمال،‮ ‬أكثر قابلية للتعاطي‮ ‬مع مسائل الحياة فيما لو قُورن الأمر بقدرة الجيل،‮ ‬أو الأجيال الأسبق‮.‬ إننا لا نتذكر كل تفاصيل طفولتنا،‮ ‬ولكننا بالتأكيد قادرون على ملاحظة أن أبناءنا اليوم هم افضل منا‮ ‬يوم كنا صغارا في‮ ‬أمور كثيرة‮. ‬وما زلت اذكر رسالة من قارئةٍ‮ ‬شابة،‮ ‬طالبة في‮ ‬الجامعة،‮ ‬تحدثت فيها عن ذات المقارنة،‮ ‬ولكن في‮ ‬اتجاهٍ‮ ‬معاكس تماما‮.‬ ‮ ‬فهي‮ ‬رأت أن الجيل الجديد من الشباب والشابات‮ ‬ينشأ في‮ ‬فترة انعدام المثال أو الفكرة التي‮ ‬يتبناها،‮ ‬وهي‮ ‬أكثر من ذلك تغبط جيلنا لأنه كان برأيها أكثر تألقا وانسجاما مع ذاته،‮ ‬وان الفترة التي‮ ‬عاشها مأخوذاً‮ ‬بهدفٍ‮ ‬تثير لدى الجيل الجديد نزوعاً‮ ‬من حنين،‮ ‬لأن هذا الجيل،‮ ‬جيلها،‮ ‬أفاق على الهزائم والخيبات والانكسارات،‮ ‬لذا فانه‮ ‬يعاني‮ ‬من التمزقات والاحباطات‮.‬ ‮ ‬وربما وجب التدقيق بالقول أن الجيل الأسبق بدوره لم‮ ‬يعش فترة انتصارات باهرة،‮ ‬ولكن الفارق الجوهري‮ ‬أن الجيل الجديد أبصر الدنيا وقد أصبحت الهزائم مشروعاً‮ ‬مُنجزاً،‮ ‬انه بتعبير آخر تجرع نتائجها المرة،‮ ‬فيما كان الجيل الأسبق شاهداً‮ ‬على الحدث نفسه قبل أن‮ ‬يتحول إلى نتائج وتداعيات‮.‬ رسالة هذه الطالبة نموذج أو عينة بين نماذج وعينات أخرى كثيرة تدل على أن الجيل الجديد،‮ ‬على خلاف الفكرة الشائعة عنه،‮ ‬هو الآخر جيل مسكون بالقلق وبالبحث عن مثال ومنظومة قيم،‮ ‬ومعنيٌ‮ ‬أن‮ ‬يجعل لحياته هدفاً‮ ‬ورؤية،‮ ‬وفي‮ ‬كل الأحوال فان الرهان أو التعويل هنا إنما‮ ‬يدور عن شريحة أكثر حساسية تجاه الجديد وتجاه القضايا العامة،‮ ‬وان كل الخراب الذي‮ ‬عشناه ونعيشه لم‮ ‬يفلح في‮ ‬إطفاء جذوة الوعي،‮ ‬لأن هذا الخراب ذاته فيه من العناصر ما هو كاف لإيقاد هذه الجذوة حتى إن أوشكت على الانطفاء‮.‬ هذا الجيل بحاجة لمن‮ ‬يأخذ بيده،‮ ‬لمن‮ ‬يرهف السمع لقلقه وهواجسه وطموحاته،‮ ‬أن‮ ‬يرى فيه المستقبل الذي،‮ ‬مهما‮ ‬غالبنا السواد،‮ ‬نطمح في‮ ‬أن‮ ‬يكون نيراً‮ ‬ومضيئاً‮.‬ ‮ ‬يحضرني‮ ‬هنا ما كتبه مبدع من زماننا هو الراحل الكبير سعد الله ونوس في‮ ‬إهداء أعماله الكاملة إلى ابنته‮ »‬ديمه‮«‬،‮ ‬ومن خلالها إلى جيلها والأجيال التي‮ ‬تليها،‮ ‬حين تمنى أن تكون الطاقات المخزونة في‮ ‬أعماقهم أقوى من الهزيمة،‮ ‬ومن‮ ‬يدري،‮ ‬فقد‮ ‬يجدون الجملة السحرية التي‮ ‬يغدو بها الزمن جميلا والوطن مزدهرا‮.‬
 
صحيفة الايام
5 اغسطس 2008