حالما تفككت يوغسلافيا إلى قطع صغيرة من الموزاييك السياسي، تعددت رغبة القوميات المختلفة لبناء دولها المستقلة عن هيمنة القومية الكبرى في تلك الجمهورية الفيدرالية وهي »القومية الصربية« التي كان حضورها ووجودها واضحا في تلك المساحة »اليوغسلافية« الشاسعة في البلقان. وإذا ما كانت هناك من أسس ومقومات دستورية وفكرية تربط تلك المساحة في ظل قيادة قوية متماسكة منذ التأسيس بزعامة تيتو، وفي ظل توازن قوى دولية لها حضورها العالمي والقاري تحديدا، إذ حددت القوى العظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الخطوط والحدود المقسمة بين معسكرين، فباتت يوغسلافيا واحدة من خطوط التماس بين ذلك المعسكرين. ويبدو أن تكوين وواقع يوغسلافيا السياسي لم يكن بعيدا عن ذلك الانهيار الكبير، إذ زحف التأثير وانتشر الزلزال في شرق القارة، فانتفضت شعوب وإثنيات صغيرة رغبت في أن يكون لها كيانها ودولتها وسيادتها الكاملة.
هكذا وجدت البوسنة نفسها في ذلك الطريق انطلاقا من شعورها بان ٠٧٪ من الغالبية البوسنية »المسلمة« أجدر بحق تشكيل كيانها مع وجود أعراق عدة، تكون القومية الصربية والكرواتية وغيرها من الاثنيات الصغيرة ضمن ذلك التأسيس. وقد فهم الكرواتيون هذا الحق وساندوه لكونهم أيضا انطلقوا لتأسيس دولتهم دون أن يبيدوا أو يهضموا حقوق الأقليات الأخرى في حدود جمهوريتهم الجديدة، فيما لم يستوعب الصرب والاتجاه القومي الشوفيني هذا التوجه، لشعورهم أنهم القومية الكبرى في يوغسلافيا المنهارة. وعلى ضوء تلك الحالة الجديدة حاول رادوفان كاراجيتش بقيادته تأسيس حزب جديد في البوسنة – امتداد في المضمون لشقيقه حزب سلوفان ميلوسفيتش – عام ٩٨٩١ أطلق عليه تسمية »الحزب الديمقراطي لصرب البوسنة« وبدلا من أن تحل الخلافات داخل يوغسلافيا بصورة ديمقراطية وعبر الحوار السلمي، تصاعدت الروح الاقصائية الشوفينية عند الصرب، فلم تكن إلا المدافع والقذائف خطابا سياسيا على تلك المطالب المشروعة داخل يوغسلافيا الجديدة.
في هذه المرحلة شهدت منطقة البلقان نمطا من الإبادة والتطهير العرقي لم تعرفه أوروبا الحديثة إلا خلال الفترة الهتلرية، فتم في يوغسلافيا المقسمة قتل ما يقرب من ٠٥٢ ألف إنسان، مات منهم ما يقرب من ثمانية آلاف مسلم فقط في مذبحة سربينتسا بصورة مروعة بلغت حد الإبادة الدموية، ودخل البوسنيون معسكرات الاعتقال الوحشية، بالإضافة إلى ما يقرب المليونين مشرد تركوا بيوتهم خلفهم، وحملوا أطفالهم والقدر المستطاع من متاعهم الضروري.
ومع انتهاء الحرب البوسنية ٢٩٩١-٥٩٩١ كان على رجل الظل أن يختفي فورا فقد فشل مشروعه الشوفيني في ارض البوسنة والهرسك، فعاش مختفيا بين كهوف البوسنة والأديرة الأرثوذكسية، بغطاء رسمي وشعبي، سمح له بالتحرك كيفما يشاء حتى وان استبدل جلده طوال هذه الفترة، وآخرها كان دور رجل الطب البديل. وبذلك يكون »الرجل البديل« رادوفان كاراجيتش، هو نفسه الرجل الذي عاش مع عشيقته »ميليا« بكل حرية في شقة صغيرة في ضواحي بلغراد الجديدة، كما انه ظل يتردد على حانة قريبة من منطقة سكنه عرفت باسم »البيت المجنون« حيث ظل دائما يحتسي نبيذه الأحمر، دون أن يختفي بصورة نهائية عن التردد على زوجته ليليانا التي ظلت تعيش في بيتهم السابق في شرق سراييفو وأمه التي كانت تعيش في مونتنيغرو.
بعد سقوط رجل الظل »والغورو« اليوغسلافي الذي فضل الاختفاء وراء تلك الملابس السوداء والنظارة والشعر الكثيف واللحية الكثة، منتحلا شخصية رجل غريب الأطوار، فقد صار مثار حديث الشارع، إذ بدأ الناس يرون حكاياتهم وعلاقاتهم معه، ابتداء من جيرانه في العمارة وأصحاب البقالات ومرضاه، وانتهاء بصاحب الحانة، الذي أعلن سعادته وفخره بأن يكون ذلك »الغورو« هو نفسه كاراجيتش البطل القومي للصرب، حيث كانت معلقة صورة رادوفان في الحانة كنمط واتجاه من الإعجاب الشعبي بشخصيات بطولية مثلت التطرف القومي في يوغسلافيا، والذي صار له أتباع وأنصار في فترة تلك الحرب البوسنية البشعة.
وإذا ما تركنا خلفنا القصص الشعبية والإشاعات، فان الحقيقة تبقى مختلفة عن الأوهام، إذ عاش رجل الظل في حماية الحكومة الصربية السابقة حتى لحظة الأسابيع الثلاثة الماضية، إذ انتهت الانتخابات بخسارة الاتجاه القومي الذي كان يوفر لرجل الظل كل أشكال الدعم الأمني والشخصي، مما جعل اصطياده عسيرا من قبل قوات الناتو وكل الأجهزة الأمنية الأوروبية المعنية بملاحقته كمجرم حرب لتقديمه للمحكمة الجنائية في لاهاي. وبالرغم من المكافأة الأمريكية »خمسة ملايين دولار« لمن يرشد عنه، فان ذلك لم ينجح، وإنما صعود رئيس وزراء ورئيس جديد، يمثل الاتجاه الأوروبي والديمقراطي في البلقان الجديد، والمقتنع حزبه بضرورة الخروج من الاختناق القديم، الذي وضع صربيا في حالة عزلة أوروبية ودولية. ويأتي قرار تقديم كبش الفداء إلى محكمة لاهاي خطوة مهمة، باعتبار أن ذلك احد الشروط الأساسية لقبول صربيا في عضوية الاتحاد الأوروبي.
لم يوفر رئيس الأمن الصربي الجديد جهدا طويلا لتسليم رأس رجل الظل بعد أيام قليلة، فبكل هدوء صعد ثلاثة رجال من الأمن الى الحافلة، واقتادوه للحجرة المظلمة، إذ بدأ التحقيق وتم إجراء الترتيبات القانونية، وكل ما ينبغي إعداده للتسليم خلال أيام مقبلة. انتهت فترة تمتع كاراجيتش بغطاء حكومة »كوستينشا«. ومع تغيير الطاقم الأمني الجديد ورئاسته، تصبح حياة راتكو مالاديتش وجوران هاجيتش أكثر سوادا، كونهما الشخصيتان الأهم في ملف الإبادة والتطهير العرقي في حرب البوسنة. وسوف تستمر محاكمة رجل الظل حتى عام ٠١٠٢، بعد أن يحظى رجل الإبادة بكل حقوقه القانونية ويعيش في نفس القفص والزنزانة التي عاش فيها »رفيقه« ميلوسوفيتش، وعلينا أن ننتظر المفاجآت عن حياة رجل استعذب لعبة »التخفي ودور الغورو الأوروبي« المولع بمهنة الطب البديل !!
صحيفة الايام
5 اغسطس 2008