المنشور

سقوط قناع المختفي‮ (٢-٢)!‬

حالما تفككت‮ ‬يوغسلافيا إلى قطع صغيرة من الموزاييك السياسي،‮ ‬تعددت رغبة القوميات المختلفة لبناء دولها المستقلة عن هيمنة القومية الكبرى في‮ ‬تلك الجمهورية الفيدرالية وهي‮ »‬القومية الصربية‮« ‬التي‮ ‬كان حضورها ووجودها واضحا في‮ ‬تلك المساحة‮ »‬اليوغسلافية‮« ‬الشاسعة في‮ ‬البلقان‮. ‬وإذا ما كانت هناك من أسس ومقومات دستورية وفكرية تربط تلك المساحة في‮ ‬ظل قيادة قوية متماسكة منذ التأسيس بزعامة تيتو،‮ ‬وفي‮ ‬ظل توازن قوى دولية لها حضورها العالمي‮ ‬والقاري‮ ‬تحديدا،‮ ‬إذ حددت القوى العظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الخطوط والحدود المقسمة بين معسكرين،‮ ‬فباتت‮ ‬يوغسلافيا واحدة من خطوط التماس بين ذلك المعسكرين‮. ‬ويبدو أن تكوين وواقع‮ ‬يوغسلافيا السياسي‮ ‬لم‮ ‬يكن بعيدا عن ذلك الانهيار الكبير،‮ ‬إذ زحف التأثير وانتشر الزلزال في‮ ‬شرق القارة،‮ ‬فانتفضت شعوب وإثنيات صغيرة رغبت في‮ ‬أن‮ ‬يكون لها كيانها ودولتها وسيادتها الكاملة‮.‬
‮ ‬هكذا وجدت البوسنة نفسها في‮ ‬ذلك الطريق انطلاقا من شعورها بان ‮٠٧‬٪‮ ‬من الغالبية البوسنية‮ »‬المسلمة‮« ‬أجدر بحق تشكيل كيانها مع وجود أعراق عدة،‮ ‬تكون القومية الصربية والكرواتية وغيرها من الاثنيات الصغيرة ضمن ذلك التأسيس‮. ‬وقد فهم الكرواتيون هذا الحق وساندوه لكونهم أيضا انطلقوا لتأسيس دولتهم دون أن‮ ‬يبيدوا أو‮ ‬يهضموا حقوق الأقليات الأخرى في‮ ‬حدود جمهوريتهم الجديدة،‮ ‬فيما لم‮ ‬يستوعب الصرب والاتجاه القومي‮ ‬الشوفيني‮ ‬هذا التوجه،‮ ‬لشعورهم أنهم القومية الكبرى في‮ ‬يوغسلافيا المنهارة‮. ‬وعلى ضوء تلك الحالة الجديدة حاول رادوفان كاراجيتش بقيادته تأسيس حزب جديد في‮ ‬البوسنة‮ – ‬امتداد في‮ ‬المضمون لشقيقه حزب سلوفان ميلوسفيتش‮ – ‬عام ‮٩٨٩١ ‬أطلق عليه تسمية‮ »‬الحزب الديمقراطي‮ ‬لصرب البوسنة‮« ‬وبدلا من أن تحل الخلافات داخل‮ ‬يوغسلافيا بصورة ديمقراطية وعبر الحوار السلمي،‮ ‬تصاعدت الروح الاقصائية الشوفينية عند الصرب،‮ ‬فلم تكن إلا المدافع والقذائف خطابا سياسيا على تلك المطالب المشروعة داخل‮ ‬يوغسلافيا الجديدة‮.‬
‮ ‬في‮ ‬هذه المرحلة شهدت منطقة البلقان نمطا من الإبادة والتطهير العرقي‮ ‬لم تعرفه أوروبا الحديثة إلا خلال الفترة الهتلرية،‮ ‬فتم في‮ ‬يوغسلافيا المقسمة قتل ما‮ ‬يقرب من ‮٠٥٢ ‬ألف إنسان،‮ ‬مات منهم ما‮ ‬يقرب من ثمانية آلاف مسلم فقط في‮ ‬مذبحة سربينتسا بصورة مروعة بلغت حد الإبادة الدموية،‮ ‬ودخل البوسنيون معسكرات الاعتقال الوحشية،‮ ‬بالإضافة إلى ما‮ ‬يقرب المليونين مشرد تركوا بيوتهم خلفهم،‮ ‬وحملوا أطفالهم والقدر المستطاع من متاعهم الضروري‮. ‬
ومع انتهاء الحرب البوسنية ‮٢٩٩١-٥٩٩١ ‬كان على رجل الظل أن‮ ‬يختفي‮ ‬فورا فقد فشل مشروعه الشوفيني‮ ‬في‮ ‬ارض البوسنة والهرسك،‮ ‬فعاش مختفيا بين كهوف البوسنة والأديرة الأرثوذكسية،‮ ‬بغطاء رسمي‮ ‬وشعبي،‮ ‬سمح له بالتحرك كيفما‮ ‬يشاء حتى وان استبدل جلده طوال هذه الفترة،‮ ‬وآخرها كان دور رجل الطب البديل‮. ‬وبذلك‮ ‬يكون‮ »‬الرجل البديل‮« ‬رادوفان كاراجيتش،‮ ‬هو نفسه الرجل الذي‮ ‬عاش مع عشيقته‮ »‬ميليا‮« ‬بكل حرية في‮ ‬شقة صغيرة في‮ ‬ضواحي‮ ‬بلغراد الجديدة،‮ ‬كما انه ظل‮ ‬يتردد على حانة قريبة من منطقة سكنه عرفت باسم‮ »‬البيت المجنون‮« ‬حيث ظل دائما‮ ‬يحتسي‮ ‬نبيذه الأحمر،‮ ‬دون أن‮ ‬يختفي‮ ‬بصورة نهائية عن التردد على زوجته ليليانا التي‮ ‬ظلت تعيش في‮ ‬بيتهم السابق في‮ ‬شرق سراييفو وأمه التي‮ ‬كانت تعيش في‮ ‬مونتنيغرو‮. ‬
بعد سقوط رجل الظل‮ »‬والغورو‮« ‬اليوغسلافي‮ ‬الذي‮ ‬فضل الاختفاء وراء تلك الملابس السوداء والنظارة والشعر الكثيف واللحية الكثة،‮ ‬منتحلا شخصية رجل‮ ‬غريب الأطوار،‮ ‬فقد صار مثار حديث الشارع،‮ ‬إذ بدأ الناس‮ ‬يرون حكاياتهم وعلاقاتهم معه،‮ ‬ابتداء من جيرانه في‮ ‬العمارة وأصحاب البقالات ومرضاه،‮ ‬وانتهاء بصاحب الحانة،‮ ‬الذي‮ ‬أعلن سعادته وفخره بأن‮ ‬يكون ذلك‮ »‬الغورو‮« ‬هو نفسه كاراجيتش البطل القومي‮ ‬للصرب،‮ ‬حيث كانت معلقة صورة رادوفان في‮ ‬الحانة كنمط واتجاه من الإعجاب الشعبي‮ ‬بشخصيات بطولية مثلت التطرف القومي‮ ‬في‮ ‬يوغسلافيا،‮ ‬والذي‮ ‬صار له أتباع وأنصار في‮ ‬فترة تلك الحرب البوسنية البشعة‮. ‬
وإذا ما تركنا خلفنا القصص الشعبية والإشاعات،‮ ‬فان الحقيقة تبقى مختلفة عن الأوهام،‮ ‬إذ عاش رجل الظل في‮ ‬حماية الحكومة الصربية السابقة حتى لحظة الأسابيع الثلاثة الماضية،‮ ‬إذ انتهت الانتخابات بخسارة الاتجاه القومي‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يوفر لرجل الظل كل أشكال الدعم الأمني‮ ‬والشخصي،‮ ‬مما جعل اصطياده عسيرا من قبل قوات الناتو وكل الأجهزة الأمنية الأوروبية المعنية بملاحقته كمجرم حرب لتقديمه للمحكمة الجنائية في‮ ‬لاهاي‮. ‬وبالرغم من المكافأة الأمريكية‮ »‬خمسة ملايين دولار‮« ‬لمن‮ ‬يرشد عنه،‮ ‬فان ذلك لم‮ ‬ينجح،‮ ‬وإنما صعود رئيس وزراء ورئيس جديد،‮ ‬يمثل الاتجاه الأوروبي‮ ‬والديمقراطي‮ ‬في‮ ‬البلقان الجديد،‮ ‬والمقتنع حزبه بضرورة الخروج من الاختناق القديم،‮ ‬الذي‮ ‬وضع صربيا في‮ ‬حالة عزلة أوروبية ودولية‮. ‬ويأتي‮ ‬قرار تقديم كبش الفداء إلى محكمة لاهاي‮ ‬خطوة مهمة،‮ ‬باعتبار أن ذلك احد الشروط الأساسية لقبول صربيا في‮ ‬عضوية الاتحاد الأوروبي‮. ‬
لم‮ ‬يوفر رئيس الأمن الصربي‮ ‬الجديد جهدا طويلا لتسليم رأس رجل الظل بعد أيام قليلة،‮ ‬فبكل هدوء صعد ثلاثة رجال من الأمن الى الحافلة،‮ ‬واقتادوه للحجرة المظلمة،‮ ‬إذ بدأ التحقيق وتم إجراء الترتيبات القانونية،‮ ‬وكل ما‮ ‬ينبغي‮ ‬إعداده للتسليم خلال أيام مقبلة‮. ‬انتهت فترة تمتع كاراجيتش بغطاء حكومة‮ »‬كوستينشا‮«. ‬ومع تغيير الطاقم الأمني‮ ‬الجديد ورئاسته،‮ ‬تصبح حياة راتكو مالاديتش وجوران هاجيتش أكثر سوادا،‮ ‬كونهما الشخصيتان الأهم في‮ ‬ملف الإبادة والتطهير العرقي‮ ‬في‮ ‬حرب البوسنة‮. ‬وسوف تستمر محاكمة رجل الظل حتى عام ‮٠١٠٢‬،‮ ‬بعد أن‮ ‬يحظى رجل الإبادة بكل حقوقه القانونية ويعيش في‮ ‬نفس القفص والزنزانة التي‮ ‬عاش فيها‮ »‬رفيقه‮« ‬ميلوسوفيتش،‮ ‬وعلينا أن ننتظر المفاجآت عن حياة رجل استعذب لعبة‮ »‬التخفي‮ ‬ودور الغورو الأوروبي‮« ‬المولع بمهنة الطب البديل‮ !!‬

صحيفة الايام
5 اغسطس 2008