عندما تبدو إمبراطورية ما في عز جبروتها ونفوذها تصعب ملاحظة ما تحمله في أحشائها من أسباب زوالها. يسهل ذلك عندما تبدأ هذه العوامل تأثيراتها. وبالطبع يكون الأمر أسهل ملاحظة بعد أن ظهور النتائج.
في 22 يونيو/حزيران 1897 كان أرنولد توينبي ذو الثمانية أعوام محمولا على كتف جده يشاهد احتفالات الذكرى الستين لتتويج الملكة فيكتوريا على عرش بريطانيا. كان ذلك يوم عطلة رسمية بالنسبة لأربعمائة مليون نسمة، أو 25% من سكان المعمورة. بعد أن كبر توينبي وأصبح من أكثر المؤرخين شهرة كتب ذكرياته عن هذا اليوم ‘بدا وكأن الشمس تجمدت في كبد السماء’، ووصف شعور الناس ‘نحن أكبر قوة في العالم، وبعد أن بلغنا هذه القمة فلن ننحدر منها يوما’. ولا حاجة الآن لكثير عناء لمعرفة أن التاريخ لم يحط بريطانيا برعايته على الدوام. أما اليوم فيطرح السؤال التالي نفسه بحدة: هل سيعاقب التاريخ القوة العظمى في عالمنا اليوم، أم أنه بدأ معاقبتها بالفعل؟
يشير فريد زكريا في شهرية ‘فورن أفيرز’ الأميركية إلى أن ما بين الإمبراطوريتين البريطانية والأميركية كثير من الشبه. الأزمة التي تعانيها الولايات المتحدة الأميركية تأتي بعد حروبها العسكرية في كل من الصومال وأفغانستان والعراق. قبل عقود كثيرة وقبل انهيارها فعلت بريطانيا ذات الشيء في هذه البلدان الثلاث. هناك فارق أساسي فيما بين الإمبراطوريتين. فمن أجل الحفاظ على وضعها الإمبراطوري كان على بريطانيا أن تحل مسائل اقتصادية بالدرجة الأولى، وليس سياسية. أما بالنسبة لأميركا فالمسألة على العكس تماما، سياسية بالدرجة الأولى. لم يكن باستطاعة بريطانيا حماية رياديتها العالمية مقابل حقيقة أن تفوقها المرتبط بدينامية تطورها الاقتصادي والتقني أخذ يتراجع بتسارع. ولهذا فلم يكن من الممكـــن تفـــادي سقوط الإمبراطورية البريطانية، لكنـه كـــان، بهــذا المعــنى سقوطــا حميدا.
أما المشكلات التي تعانيها الإمبراطورية الآن فمن نوع آخر تماما. بالرغم من الأزمة يبقى الاقتصاد الأميركي ديناميا على الأقل مقارنة مع البلدان الأخرى. والمجتمع الأميركي لم يفقد طاقته. لكن الذي يتحلل هو السياسة الأميركية غير القادرة على إجراء إصلاحات بسيطة نسبيا، قادرة على ضمان مستقبل مستقر للبلاد. كما أن واشنطن تبدو وكأنها لا تعي أن هذا العالم يتغير ولا تبدي أية قدرة على تغيير توجهات سياسيتها الخارجية وفقا لمتطلبات الحقبة الجديدة.
الأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة تخسر على مستوى صراع الأفكار فهي توغلت في حرب كونية، لكن ساحتها الأساسية ليس العراق أو أفغانستان أو مناطق القبائل الباكستانية، بل، كما يشير دانيل ديفيز ‘في تلك المساحات التي يصعب تحديدها قدرها من الذهنية الأميركية، حيث تعشعش المعتقدات والقناعات والنزعات، ورغم مرارة الواقع يجب الاعتراف بأن أميركا لا تحقق انتصارات تذكر على هذه الجبهة المعنوية. وإذا لن يتم تدارك ذلك فإن الهزيمة محققة على جبهات القتال أيضا[2]’.
هذا ما يؤكده العسكريون الأميركيون العارفون بالحال. جنرال الجو الأميركي بيتر كياريللي، المستشار العسكري الرئيسي لوزير الدفاع الأميركي قال للصحافي ديفيس ‘أن 40% فقط من الانتصارات في الحرب يتحقق بفضل القوة العسكرية الأميركية التي لا نظير لها. أما الـ 60% الأخرى فتعود إلى الانتصارات على جبهة حرب الأفكار’. أما أحد رواد حربي العراق وأفغانستان الرائد لي فيترمان الحائز على عدة جوائز فيشير إلى التناحرات في الجيش الأميركي ذاته: ‘في الحروب تنتصر الإرادة، أما إذا كان هناك أحد ما أو مجموعة ما لا تطيق أحدا ما أو مجموعة ما من رفاقها فإن الحرب تصبح طويلة وصعبة’.
ظلت الولايات المتحدة تعيش مرض العظمة استنادا إلى العظمة الفعلية التي كانت تمثلها في السابق ولم تعد تبد أي احترام أو فهم لكل ما هو خارج حدودها. وقد تفاقم هذا الوضع في السنوات الأخيرة. وكما هو واضح فإن ذلك ارتد ليصبح الآن أمرا قاتلا بالنسبة للمصالح الأميركية.
بعد عملية ‘عاصفة الصحراء’ وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة لم يسمح الغرور الأميركي لأميركا بالعمل على نزع التوتر وزرع أجواء الشراكة مع موسكو. واتخذت خطوات لا ضرورة لها لمحاصرة روسيا بحلف ‘الناتو’، وخرجت من جانب واحد من معاهدة الدفاعات المضادة للصواريخ. وقبل شن حرب ‘تحرير العراق’ أفسدت علاقاتها مع حليفيها القديمين فرنسا وألمانيا متجاهلة أراءهما وقلقهما ومصالحهما. أما الآن وبعد أن اشتد عود روسيا فلم يعد باستطاعة أميركا التعاون معها على إيران أو كوريا الشمالية. وإذ تواصل فرنسا والمانيا مساعدة اميركا في العراق وأفغانستان فإنهما تفعلان ذلك من باب الوفاء للصداقة القديمة فحسب. واستطاعت الولايات المتحدة أن تفقد صداقة حليفتها التركية القريبة منها جدا في السابق. وليس الحديث عن الحرب الكونية التي تخوضها الولايات المتحدة تعبيرا مجازا فقط في صحيفة “Cumhuriyet” التركية أشارت في نهاية العام الماضي[3] بأن أميركا تحضر لحرب عالمية في الفترة بين عامي 2014 – 6202 ردا على التهديدات التي تقف أمام جدول أعمالها. لكن أميركا لا تملك أية حظوظ لكسب هذه الحرب بقواها الذاتية. وأشارت إلى أنه في 11 سبتمبر/ايلول ,2007 أي في الذكرى السادسة لأحداث عام 2001 نشر في أميركا مفهوم الحرب الشبكية الذي يعني شن عمليات عسكرية مشتركة. يكشف هذا المفهوم أسس شن حروب طويلة الأمد تحت قيادة موحدة للقوات الأميركية ضد بلدان او مجموعات معادية على مستوى إقليمي أو عالمي. هدف هذه الحرب – تحقيق أهداف إستراتيجية وطنية. وحسب هذا المفهوم فالحرب الشبكية عبارة عن صراع حاد بين الدول أو اللاعبين المختلفين من أجل ضمان ولاء المجتمع المعني والتأثير عليه. وفي الحرب الشبكية يفضل استخدام الطرق غير المياشرة والمتناظرة. لكنه من أجل إنهاك قوى العدو وتأثيره وإرادته يمكن استخدام الوسائل العسكرية وغير العسكرية. والفكرة الأساسية لهذه العقيدة ليست في السعي لتحقيق نصر على الدولة المناهضة أو أي عدو آخر في معارك اعتيادية، بل في القيام بعمليات إقليمية وعالمية طويلة الأمد من أجل الإطاحة بالعدو أو إخضاعه أو استنزافه.
إستراتيجية أخرى قد تسعى أميركا لتحقيقها تجاه العالم في وقت أصبحت تفقد فيه اللغة السياسية البناءة للتخاطب مع هذا العالم وتعكس هذه الإستراتيجية عوامل ضعف هذه الإمبراطورية وليس قوتها.
صحيفة الوقت
4 اغسطس 2008