لكي نصل إلى تحليل بضاعتنا الكبرى والخطيرة ألا وهي (النفط) نحن بحاجة إلى فهم تاريخينا الاقتصادي والسياسي. لا تسعفنا المصادرُ في الحديث عن وجود أو عدم وجود العمل المأجور ومدى حضوره في العصر الجاهلي والإسلامي الأول، رغم أنها مسهبة في تعداد الثروات الخاصة وظهور القطائع، وهي الشكلُ المبكرُ للإقطاع العربي، وتحدد العلاقات التجارية وطرقها والعلاقات الاجتماعية – السياسية المصاحبة لهذه التجارة، وكذلك تذكرُ الموادَ الأولية العربية والحرفَ المُقامة عليها، ومن هنا من الصعوبة بمكان معرفة طبيعة رأس المال الجاهلي – الإسلامي. في البدء لا بد من معرفة المواد الأولية وهي السلع التي سوف تدخل السوق، وقيم هذه السلع، ومن أي عمل بشري أُنتجت، وماذا يحدث لهذه القيم في السوق، والأثمان التي يأخذها الوسطاء، ونوعية هذه السلع وأسباب نموها بهذا الشكل أو ذاك. ومن الواضح أن جغرافيا الجزيرة العربية هائلة، وأن ثمة مناطقَ زراعية متنوعة متباعدة، كاليمن وعمان والبحرين ويثرب – المدينة، والطائف الخ، وهذه المناطق تفصلها عن بعضها بعضا الصحارى الواسعة، وهي لا بد لها من إقامة علاقة تبادل بينها وبين بعضها بعضا ومع العالم القريب كذلك. إن الوقائعَ تشيرُ إلى عمليات تبادل تجارية بين هذه المواقع المختلفة، ويعبرُ التبادلُ عن وجود فائض اقتصادي، تمكنت قوى العمل الشعبية القبلية من إيجاده، فقام وسطاء هم تجارٌ بإرسالهِ للمناطق الأخرى فاغتنوا واغنوا التجارَ في المدن، ثم كانت مكة هي الوسيطة الكبرى التي نهضتْ فوق قوى العمل هذه حتى صارت قوة تجارية عالمية. كانت هناك مناطق ذات تاريخ قديم في الإنتاج كاليمن، ومن اليمن خرج اليهودُ إلى يثرب وأسسوا فيها الزراعةَ والحرف، كما خرجت قبائل يمنية عديدة إلى يثرب وغيرها من المناطق وخاصة شمال الجزيرة العربية، وتعبر قدرات اليهود في يثرب عن تعمق كبير في الجوانب الحرفية. كانت سلع اليمن هي مثل: النسيج الفاخر، والذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، ومواد التجميل، والتوابل بأنواعه، والأسلحة، وغيرها. إن هذه السلع تدل على تجذر قوى العمل ومهاراتها المتنوعة، وإذ تشيرُ إلى صلاتٍ تجارية بالخارج كالهند وافريقيا، إلا أنها بضائع ومواد خام مستوردة تقوم قوة العمل اليمنية بإعادة تشكيلها ومن ثم تصديرها. وتعبر مدينة يثرب عن هذا الطابع اليمني الحرفي المتأصل: «أسس اليهودُ يثربَ وعملوا الزراعة والحرف وصناعة السلاح والحدادة والدباغة والنجارة والصرافة وكان العرب يملكون 13 أطماً واليهود خمسين، وكان في المدينة أكثر من 300 صائغ حلي وكلهم من اليهود العرب وثمة حي اسمه حي الصاغة«، (المال والهلال، شكري النابلسي). وكانت المناطقُ الجزيريةُ الكبرى الأخرى كعمان والبحرين أقل من اليمن في التطور الحرفي بسبب التكون الحضري البعيد لليمن ومركزية حكمها وتاريخيته، وعمان والبحرين تنتجان الموادَ الزراعية غالباً، مع ما يتبع هذه المواد من حرف.
إن هذا التكون التبادلي بين مناطق الجزيرة العربية كان يتبع الطرق التجارية الدولية أساساً، فهو يضخُ ما يزيد على حاجتهِ إلى الأسواق الخارجية، فأغلب السلع الاستهلاكية الضرورية كالمواد الغذائية تـُستهلك محلياً، وما يزيد عليها وما يُخصص للبيع والتجارة يتوجه للأسواق المحلية ومن ثم المناطقية، وهي أسواق ثلاث كبيرة هي «عكاظ ومجنة وذوالمجاز«. وتوضحُ طبيعة السلع اليمنية المُصدرة غلبة السلع الاستهلاكية البذخية، التي تـُباع لمركز التصدير ومن ثم تباع خارجياً، في حين تعيش أغلبية المنتجين على السلع الضرورية. وبحكم تحول مكة إلى المركزين التجاري والديني معاً، فقد اختلطت السلعُ بالقيم الدينية. كانت المناطقُ الجزيرية العربية التي تقيمُ التبادلَ بينها بحاجةٍ إلى سوق موحدة تجرى فيها أكبر عمليات التبادل، فكانت مكة التي تحولت من قرية إلى مدينة بفعل الخط التجاري الدولي المار بها، ومن ثم غدت المركز التصديري الرئيسي، فكان المنتجون لكي يستمروا في عيشهم بحاجةٍ إلى تصدير الفائض نحو قبلة مكة التجارية، التي راحت تصيرُ قبلة دينية كذلك، بحكم ان الشعائرَ الدينية تحمي السلع والنقود الناتجة منها والعمليتان متداخلتان. لكن المنتجين لم يفعلوا ذلك مباشرة، بل من خلال الوسطاء التجاريين، الذين كانوا يأخذون تلك السلعَ ويبيعونها، وفي البدء نيابة عنهم بحكم النشوء القبلي، ثم مع استمرار التمايز بين المنتجين والمالكين، انفصلوا وصاروا تجاراً مستقلين. وتبينُ نشأةُ مدينة مكة هذا النموَ المتمايزَ للفئات التجارية من قلب العلاقات القبلية، ففي البداية نجد أن جدَ القبيلة (قصي بن كلاب) عنده أغلب وظائفها الدينية والتجارية مما عبر عن وحدة قبلية كلية في القمة، ثم تنشأ البيوتاتُ التجارية العائلية؛ كأمية وبني مخزوم وبني هاشم الخ… مثلما تظهر العائلاتُ الغنيةُ والعائلات الفقيرة. لكن الفارقَ بين مكة وبقية المناطق إنها غير منتجة لسلعٍ، بل هي تستقبلُ السلعَ وتصدرها، وتحتفظ بجزءٍ ضئيلٍ منها للاستهلاك، فهي بلا جذور حرفية وبلا زراعة، ومن هنا قامتْ بتحويل جزء من رؤوس أموالها لتملك الأراضي في المناطق المجاورة فكان (الطائفُ) بستانَها، و(جدة) ميناءها فغدت دويلة اقتصادية. تعبرُ مكة عن المدينة التجارية الخالصة، التي لم تتطور من داخلها لتكون مدينة تجارة، بل هي قد أسستها الضرورةُ التبادلية العالمية والمناطقية، ولهذا فإن المناطقَ الأخرى لم تستطع أن تتطور مثل مكة في نموها الاقتصادي وفي عقليتها التحديثية. لقد ساعدها غيابُ الجذور الزراعية والحرفية لكي تكونَ مدينةَ مالٍ وسلعٍ بالدرجة الأولى. لكنها مع ذلك بحكم خلفيتها الدينية التي رُكبت وتصاعدت بفضل دورها التجاري التوحيدي، فكان هذا الدور يعضد المكانة التجارية ويُضفي عليها قداسة، ولكن هي قداسةٌ تجميعيةٌ للرموز الدينية مثلما هي تجميعٌ للسلع التجارية. ومع ضخامة دور الوسيط بين المنتجين المتوارين، سواء كانوا عرباً أم أجانب، فإن الوسيطَ هو الذي أثرى أكثر من أولئك المنتجين، وتدلنا الأرقامُ التجارية للسلع ولأرباحها على ضخامة الرأسمال البضائعي الذي يتدفق والذي يتحول من جديد للتجارة، أو يشتري الأرضَ العقارية، التي كانت محدودةً بحكم ضخامة الصحراء. ومنذ البداية نلمحُ هذا التناقضَ المهم بين كميةِ النقد الكثيرة المتوافرة وغياب التوظيفات الفاعلة، فيذهب قسم كبير من النقد نحو الاستهلاك البذخي، فيضيع من دورة رأس المال، ولكنه في هذه المرحلة لا يضيع بل يُوظف لكن حين ستنشأ أسرٌ حاكمة ويتراكم الفائضُ لديها فسوف يتجه إلى البذخ الخالص.
صحيفة اخبار الخليج
4 اغسطس 2008