ككل الأنظمة العسكرية الشمولية تكون الخاتمةُ مأساويةً، ويظهرُ تراكمُ المشكلات دفعة واحدة على هيئة انفجار، فالسودان البلد ذو الإمكانيات الاقتصادية والبشرية الخرافية حوله حكمُ الجيش على مدى العقود الماضية والتي قبلها إلى اقاليم مستعدةٍ للانقضاضِ على السلطة المركزية العربية الإسلامية. وعبر احتكارها للسلطة وخدمة طبقة صغيرة وتنامي أعداد الناس وبقاء المشكلات الكبيرة بلا حلول، وسيطرة العاصمة على البلد وسيطرة طبقة ضئيلة على الشعب والموارد، فإن النتائجَ تكون انفضاض تلك الإقاليم عن المركز المهيمن العاجز عن توفير مستلزمات العيش الضرورية، لأنه لا يمتلك سياسة إصلاحية ديمقراطية، وتنخرهُ كلُ أشكالِ البيروقراطية والتسلط والتخلف.
لقد جاء حكمُ (الانقاذ) بلا أجندة تجاوزية لحكم حزب الأمة وغيره من الإقطاع السياسي المذهبي، فلم ينقذ لا الفلاحين المنهارين ولا أهل القبائل والأديان والمذاهب الأخرى، بل قدم القمعَ ضد هذه القوى، وكانت سياسته الرشيدة المميزة الوحيدة هي اتفاقهُ مع أهل جنوب السودان وتوقيف الحرب وإقامة شراكة مع أهل هذا الإقليم من الاخوة المسيحيين والإحيائيين ربما بسبب الثروة النفطية الكبيرة التي ظهرت بين الجنوب والشمال وليس بسبب الأخلاق الرفيعة لدى ضباط الانقاذ، وكان ينبغي مد هذه السياسة الحوارية الوطنية مع بقية اقاليم السودان وخاصة مع منطقة دارفور، بحيث تتحول جمهورية السودان إلى جمهورية ديمقراطية، ولكن القمع على مدى السنين الماضية رداً على ثورة أهل الإقليم وعلى جماعات العنف الأهلية جعله يرتكب خطأه الجسيم. وإذ سد السودان الحكومي باباً واسعاً لتدخل الغرب المتلهف الجائع لثروات البلد، فإنه فتحَ باباً آخر أشد وأخطر، والمسألة هي مسألة مبدأ، فمادمتَ تقيمُ تعاوناً وتحالفاً مع إقليم فلماذا ترفض التعاون مع آخر وهو من كيانات بلدك نفسها؟ لا شك أن ثمة تدخلات معقدة في الإقليم، وليس أن الحكومة المركزية تتحمل كل تبعات الموقف، لكنها لم تمسك خيوطَ الموقف بحكمةٍ في هذا الإقليم، وقادتها ردودُ الأفعال تجاه التمردات إلى جرائم رهيبة. وليس المدعي العام في المحكمة الدولية هو شخص أرعن وأحمق كما تقول المظاهراتُ الحكومية السودانية، بل هو شخص نزيه سبق أن تولى الادعاء في قضايا بلده ضد العسكريين وجرائمهم وأحدثت هذه المحاكمات وظيفة تحولية ديمقراطية كبيرة. ولكن ما ينطبق على الأرجنتين وتشيلي وغيرهما من الدول الأمريكية اللاتينية ذات الكيان الوطني المتماسك، لا ينطبق على السودان الكيان المهدد بالتقسيم والتفكيك، والابتلاع من قبل القوى الدولية. كذلك فإن حكومة البشير بدأت خطوات في اتجاه الديمقراطية وسمحت بظهور الأحزاب والحريات المختلفة وبدأت بتطبيق دستور حديث، وابدت مرونة في الكثير من القضايا الوطنية والدولية مثل حضور قوات افريقية الخ… ولكن ثمة مؤامرات من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية لانتزاع مناطق من كيانه الفضفاض، الذي يعادل بعضها كيانات دول أوروبية، فإقليم دارفور يساوي مساحة فرنسا، وعلى هذا فقد استخدمت كلمة الحق من قبل مدعي المحكمة الدولية لقضية باطل هي ابتلاع وتفكيك دولة والسيطرة على مساحاتها وثرواتها التي تركها الحكمُ العسكري لقبضِ الرياح الغربية. ولهذا فإن مواقفَ الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية هي مواقفٌ مسئولةٌ في مثل هذا الظرف الدقيق، فليس هناك دفاع عن الظلم في النظام وليس هناك كذلك دعوة للدول الغربية لكي تبتلع ثروات بلد شقيق. إن الموقف من رئيس البلد لم يعد موقفاً شخصياً، فقد أدت الإثارة من قبل المحكمة الدولية ومواقف أمريكا وفرنسا، النظامين اليمينيين، إلى أن يكون هناك التفاف على مرشح واحد لرئاسة السودان، ولو كان هناك توحد سوداني تجاه مرشح واحد للرئاسة لكان ذلك أفضل بكثير، ولكن ذلك غير ممكن بسبب سياسة النظام العسكري نفسه تجاه الفرقاء الوطنيين، الذين تحملوا منه الكثير من التعسف. غير أن فوز مرشح آخر غير الرئيس البشير الحالي أمر صعب، كذلك فإن رئيس حزب الأمة الصادق المهدي وهو المرشح المنافس البارز، صار من الوجوه القديمة التي لم تستطع طرح سياسة تحديثية للبلد وراوح في مكانه خلال نصف قرن. ويبقى مرشح القوى الشعبية واليسارية في جنوب السودان الذي لا يمكن أن يفوز بحكم دور الجنوب المهمش وسيطرة الشمال الطويلة، وإن كنا نقول: إن السياسة الوطنية لقوى اليسار السوداني: جنوبه وشماله هي أضمن سياسة لتوحيد السودان بشكلٍ حقيقي ووطني ويعبر عن أغلبية الجمهور العامل، ولمعالجة المشكلات المزمنة التي لم تحلها حكوماتُ «الحرامية« على مدى نصف قرن. يبقى أن أهل مكة أدرى بشعابها، ولكن التضامن واجب مع أهل السودان الذين طالما تضامنوا وكافحوا من أجل العروبة والإسلام والإنسانية.
صحيفة اخبار الخليج
3 اغسطس 2008