بدت ثلاثة عشر عاما من الاختفاء لجزار حقبة البلقان السوداء رادوفان كاراجيتش طويلة لدى عائلات ضحايا الكروات والبوسنة، على وجه الخصوص أهالي سبرينتشا الذين ذاقوا ويلات حمامات الدم، إذ لم تعرف أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة مثلما فعله »صاحب الطب البديل« محاولا إخفاء شخصيته كرجل بديل، يمارس حياة هادئة كما يتوهم البعض، إذ لا توجد حياة هادئة للإنسان الفار من وجه العدالة، والتي اكتسبت سمة دولية ومحلية قررت مطاردة رجل متهم بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي ومجرم حرب، إذ مارس القتل بدم بارد وصنع مقابر جماعية ذكّرت أوروبا بمرحلة المحارق الجماعية للحقبة الهتلرية.
لقد ظل رادوفان متخفيا خلف نظارته وشنبه ولحيته الصربية، محاطا بمجموعة أو تنظيم قومي متعصب، قدم له كل العون لكي يبقى هاربا من وجه العدالة، التي سيجد يوما نفسه في قبضتها، فلا احد بإمكانه أن يهرب من قرار الموت عندما ينوي ملاحقته حتى اللحظة الأخيرة. ظل رادوفان بقناعه الاجتماعي منزويا في جحره السري محاطا بثلة حاولت تقديم كل التسهيلات الأمنية والعسكرية واللوجستية له لأكثر من عقد، غير أنها لم تستطع أن تمنع ضربات قلبه كمتخفٍ كلما سمع طرقات الباب أو رنة هاتف ليلي، بل وظل يرقب عيون الناس في مقاهي المدينة. وكلما راحت بالصدفة عين إنسان تحدق فيه نهض تاركا مكانه، متوهما أن تلك النظرة ليست إلا نظرة رجل من رجالات الأمن المعنيين بملاحقته كحاملي عصا العقاب الأبدي لشخصيات مارست دور الشر فوق مسرح البلقان المنهار في العقد الأخير من القرن المنصرم.
وبالرغم من ممارسة سفاح البلقان للطب البديل، وبالرغم من تمثيله لشخص بديل عبر تزييف هويته وشكله واسمه، إلا انه ظل في نفسه ومع صوته الداخلي، المسكون بهاجس الخوف كونه ملاحقاً وجباناً، لم يستطع أن يتجاوز شعور إنسان مرتعش بانتظار سقوطه النهائي في أي لحظة. من يهربون من وجه العدالة كمجرمي حرب وإبادة يدركون في داخلهم أنهم باتوا سجناء حقيقيين منذ لحظة تخفيهم، فليس كون المرء محاطاً بمجموعة من التسهيلات والبيت الوثير معناه انه بات حرا وبإمكانه أن يخرج إلى أي مكان بحرية الإنسان الطبيعي، فمثل هؤلاء لا يسجنون أنفسهم وحسب، بل ويسجنون من يعيشون حولهم لكونهم خيوطاً للمراقبة واثراً قد يؤدي لوكرهم الخفي، فتصبح التعليمات الصارمة قيودا لتلك الحلقة الضيقة، فمجرد خطأ واحد قد يؤدي إلى الكارثة.
هكذا نسج رادوفان كرجل عنكوبتي حول نفسه عالماً من الظلام الداخلي بتغيير شكله واسمه ومهنته، في زمن لا يمكنك الاختفاء طويلا إن لم يكن هناك عالم أوسع حولك يقدم لك ضمانات التحرك بحرية مناسبة، بل ويدرك أولئك المعنيون بحمايتك الطرق والسبل الملائمة لإخفائك. هكذا عاشت صربيا ومدينة بلغراد مسرحا لحدث يناسب فيلما هوليووديا، إذ تراخت السلطات الصربية في ملاحقة رادوفان، لكونها لم تنته من وضعها الداخلي وصراعاتها المريرة بين تيارين، تيار الانفصال المعادي للديمقراطية والانضمام للاتحاد الأوروبي والمحتمي بحلقة قديمة اسمها روسيا – كوهم سياسي قديم – وتيار آخر يتوق للحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي.
وبما أن التيار القومي ظل ولا يزال قويا في التربة الصربية، فان انتشار رجاله كورثة الحكم اليوغسلافي القديم، ظلت أصابعهم وعناصرهم تتحكم في مفاتيح الأمن والمواقع الحساسة، وهي التي ساعدت على بقاء رادوفان كاراجيتش مختفيا هذه المدة، مما عقد ظروف صربيا في الدخول للنادي الأوروبي، بل ووضع الاتحاد الأوروبي شرطا أساسيا لقبول صربيا هو تسليم »رأس الأفعى المختفي« لهذا شهدت السنوات الأخيرة تكثيفا لعملية الاستخبارات والتعاون الأوروبي مع السلطات الجديدة في صربيا، والتي تمثل التيار المنادي بضرورة انضمام صربيا للاتحاد. ما جعل حياة الهارب المختفي صعبة وتعسة، حيث إن نطاق حياته والمعايشة اليومية »لرجل الطب البديل« بات تراجيديا، كما إن انهيار مشروعه القومي والسياسي في التسيد والعرقية الشوفينية وحلم بناء دولته أصبح مستحيلا في القارة الأوروبية الجديدة. هذا اليأس الخانق بسبب ما يدور حوله وتخلي الحلقات القومية العرقية وانهيارها أمام مشروع الديمقراطية الأوروبية الجديدة، فكك جبهة رادوفان بهدوء، فما عاد الشارع الصربي في القرن الواحد والعشرين ملكا وارثا للرجال المتهرئين، الملوثين بالعصبية والتطهير العرقي. كان لا بد وان يسقط الهارب بطريقة ما، وسوف تكشف لنا الأيام القادمة الآلية الأمنية التي ساعدت على اصطياده وهو متخفيا في عشه المضطرب، قابعا ومكسورا في قفص الاتهام في لاهاي.
المصابون في صربيا من أنصاره بصدمة الحقيقة والفزع، لم يتمكنوا لحظتها من إيقاف تدفق دم الفرح لدى البوسنيين وهم يرقصون في شوارع المدينة. ومع ذلك تبقى مسألة مهمة وهي أن سقوط رادوفان وغيره من العنصريين في أوروبا وأي مكان لا يعني سقوط »المشروع« فهناك مجموعات صربية لا يمكنها التخلي عن عدوانيتها وكراهيتها للآخر، سواء كان دينيا أو عرقيا أو خلافه. سيرحل رادوفان نحو الجحيم والنسيان، كما رحل صدام وهتلر وبينوشيه وسلوفودان وآخرون، كدرس هام، بأن الطغاة لا يمكنهم الإفلات من وجه العدالة والعقاب، فهناك لحظة من التاريخ يسقط فيها قناع التخفي الكاذب مهما كان صاحبها يعيش بهوية »شخصية بديلة!«.
صحيفة الايام
3 اغسطس 2008