الآن وقد انزاحت العواطف وعادت بهدوء إلى مستقرها، نستطيع أن نتداول بتجرد (بعيداً عن العواطف) في شأن عملية تبادل الأسرى التي تمت يوم الأربعاء الموافق للسادس عشر من يوليو (تموز) الماضي بين حزب الله وإسرائيل.
لا مجال للشك إطلاقاً في أن هذه الصفقة جاءت في نتيجتها خسارة لإسرائيل ومربحة على نحو واضح لحزب الله. فمرة أخرى يسجل حزب الله تفوقاً صريحاً في صراعه مع إسرائيل عكسته حالة الوجوم والحزن التي خيمت على الأخيرة في يوم إتمام الصفقة، مقابل نشوة الانتصار والزهو والاحتفال الكبير الرسمي والشعبي الذي ميز الحالة اللبنانية في ذلك اليوم.
إذ لم يسبق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن لف الحزن الدولة العبرية على المستويين الرسمي والشعبي مقابل ذيوع وانتشار مشاعر الفرح والحبور في عواصم العرب إثر نجاح مؤزر في النيل من مصادر قوة إسرائيل مادياً ومعنوياً.
هي صفقة بطعم الهزيمة النكراء لإسرائيل التي شنت حرباً فاشلة ضد لبنان صيف عام 2006 لاستعادة أسيريها لدى حزب الله فإذا بها تضطر مكرهة لتسلمهما عن طريق التفاوض غير المباشر مع حزب الله الذي أجبرها في نهاية المطاف على إطلاق سراح عميد الأسرى اللبنانيين سمير القنطار الذي كانت صدرت بحقه أربعة أحكام بالسجن المؤبد يزيد مجموعها على خمسمائة سنة قضى منها ثلاثين عاماً في السجون الإسرائيلية.
وهي هزيمة لا تقدح فيها شنشنات العجوز الفاشل شيمون بيريز الذي ذهب بعقله الغيض والكمد لحد الزعم بأن صفقة التبادل تعد انتصاراً أخلاقياً لإسرائيل (!) متناسياً أن الأخلاق لا يجمعها أي جامع مع الإجرام والفاشية، فما بالك إجرام وفاشية إسرائيل التي لا تضاهى.
إلى ذلك، ورغم أهمية وقيمة ودلالة نتائج صفقة التبادل هذه، فإنها ما كانت لتمر من دون أن تنال حقها من التغطيات والقراءات والتحليلات الإعلامية الواسعة، سواء هناك في البلدان الغربية (نظراً لكون أحد طرفيها إسرائيل) أو هنا في الشرق العربي خصوصاً والشرق الأوسط عموماً.
فلابد للمهتمين والمتابعين للشأن العربي العام من أن يكونوا قد تابعوا عبر هذه الوسائط، الحوارات والنقاشات المتنوعة التي رافقت عملية التبادل يوم إتمامها واليوم الذي تلاها، والتي وإن تخللتها بعض الذاتية المُطوَّعة، إلا أن أغلبها طاول الاستراتيجيات المحلية والإقليمية والدولية المتداخلة بكل عناصرها المادية والنفسية.
فالحقيقة أن صفقة التبادل بما بدت عليه من لا تكافؤ في الحصاد الذي خرج به طرفاها منها (خمسة أسرى أحياء لحزب الله بينهم سمير القنطار المحكوم الذي صدرت به خمسة أحكام مؤبد وحكم سادس مدته 47 سنة إلى جانب 199 جثاماً ورفات مقاتلين لبنانيين وفلسطينيين وعرب آخرين بينها رفات المناضلة دلال المغربي، مقابل استعادة إسرائيل جثتي جندييها المخطوفين على يد حزب الله صيف عام 2006) -نقول إن صفقة بهذا اللاتكافؤ لاشك في أنها تثير بعض التساؤلات، خصوصاً أن أحد طرفيها إسرائيل المعروفة بلؤمها السياسي و’جشعها التفاوضي’ إن جاز التعبير.
كثيرة هي التحليلات التي تناولت هذا الحدث والتي حاولت من خلال قراءاتها المختلفة إعطاء تفسيرات وتأويلات لطبيعة وملابسات وحصيلة هذه الصفقة التي أُديرت مفاوضاتها في سرية تامة انحصرت أطرافها المباشرة، بالإضافة إلى طرفيها الأساسيين إسرائيل وحزب الله، في أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون والوسيط الدولي الذي انتدبه بان كي مون للتوسط بين الطرفين وإنجاز الصفقة.
وذهبت معظم التحليلات إلى اعتبار الوضع السياسي الهش لرئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، كسبب رئيس لتهافت حكومته على إبرام الصفقة وذلك ضمن حزمة نجاحات خارجية يخطط لها لتعزيز موقعه الداخلي، داخل حزبه ‘كاديما’ ولدى أوساط الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما ينطبق حكماً كمثال على المفاوضات التي كُشف عنها النقاب والدائرة، بوساطة تركية، بين فريق تفاوضي إسرائيلي وفريق آخر سوري بشأن هضبة الجولان السورية.
ولكن حتى هذا التأويل، يعوزه المنطق الداخلي (لمعادلته) المتماسك. فضعف أولمرت لا يوفر له حرية ومرونة الحركة الكافية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في عدوان يونيو (حزيران) ,1967 حتى وإن استخدم الابتزاز مع شركائه في الحكومة من حزب العمل بالتلويح لهم بورقة الانتخابات المبكرة غير المضمونة النتائج لهم إن هم فكروا بالانضمام إلى أطراف الضغط التي تحاول محاصرته لإجباره على الاستقالة.
هذا يعني أن المسألة تتجاوز أولمرت وقدرته المتاحة للتحرك. إنها سياسة دولة وطبقتها السياسية المجمعة، على ما يبدو، على الكليات بمعزل عن صراعاتها على الفرعيات.. سياسة تحاول شراء الوقت ليس في لبنان وحسب وإنما مع حركة حماس في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومع سوريا. وهو أمر لم يكن ليتحقق من دون التوافق والتنسيق بين تل أبيب وواشنطن.
أما الهدف، وكما توضحه المعطيات ‘السطحية’ والمتوارية -بفعل فاعل مقصود- فهو التفرغ لإيران ومقابلة تحديها لإرادة الطرفين، الأمريكي والإسرائيلي، المتجهة لوضع حد لطموحاتها النووية، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية إذا تطلب الأمر ذلك.
إنما اللافت للنظر تلك اللغة الدبلوماسية غير المعهودة التي تحدث بها أمين عام حزب الله في خطابه يوم أُطلق سراح القنطار ورفاقه من السجون الإسرائيلية. فلقد كانت الكلمات تشي بأن شيئاً ما غير معلن قد انطوت عليه الصفقة مضمرٌ، فيما بدا وكأنه إسدال للستار على أحد مصادر الصراع مع إسرائيل وهو ملف الأسرى من خلال ترديد القول بأن لبنان هو أول بلد عربي يغلق ملف الأسرى مع إسرائيل، ومن خلال ما أفصح عنه السيد حسن نصرالله في خطابه آنف الذكر من أنه طلب من الأمين العام للأمم المتحدة في خطاب مكتوب العمل على إطلاق جزء من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وخاصة الأطفال والنساء وكبار السن وإنه طالب الدول العربية والإسلامية بالضغط من أجل إطلاق 11 ألف أسير فلسطيني.
مع إن المفهوم أنه مادام الصراع العربي الإسرائيلي مستمراً باستمرار أسبابه فسيكون هناك دائماً معتقلون، حتى ولو أسدل الستار نهائياً على ملف هنا أو ملف هناك للمعتقلين.
ثم إن المنطق يدعو الجميع لأن يشحذوا هممهم لممارسة الضغط نفسه على الحكومات العربية لإطلاق سراح الآلاف من معتقلي الرأي العرب الذين مضى على كثير منهم أكثر من ثلاثين عاماً في سجون الأنظمة العربية، وكثير منهم أصيب بعاهات مستديمة جراء عمليات التعذيب الوحشية التي تعرضوا لها وظروف الاعتقال المزرية التي يوضعون فيها، والتي تتجاوز مدة التوقيف والتحقيق إلى فترة السجن الممتدة وغير المعلومة بالنسبة لغالبية المعتقلين، وكثيرون منهم من حملة الدكتوراه والتخصصات العليا.
حتى صح القول على بعض أشهر معتقلاتنا العربية بأن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. ولعلي هنا أحيلكم إلى بعض الشهادات الحية التي سجلها في روايات مرعبة بعض مَن كتبت لهم تلك الولادة من جديد.
صحيفة الوطن
2 اغسطس 2008