المنشور

السياحة من منظور ديني

لم يعرف المسلمون السياحةَ بمفهومها المعاصر، رغم أنهم أكثر الشعوب القديمة سياحةً في الأرض، وقد خرجوا من بواديهم ووصلوا إلى الجزر الاندونيسية كتجار وتزوجوا واختلطوا ووضعوا بصماتهم عليها. وكانت المدنُ الإسلامية المزدهرة قد عرفت جميع أشكال السياحة الداخلية ودور اللهو، ورغم أن الفقهاءَ وقتذاك لم يكونوا مؤيدين لها فإنهم لم يدخلوا في معركة ضدها، وقد عرف الأئمة الكبار وقتذاك كجعفر الصادق وأبي حنفية ومالك والشافعي هذه الحداثة لكنهم لم يجعلوها ميدانَ صراعِهم بل حددوا بدقة الميدان في كيان الدولة ووظائفها، لكن مع تدهور الحياة الاقتصادية بسببِ الاسرافِ الحكومي على البذخ وإهدار الثروة العامة، ظهر فقهُ الحرب ضد الحداثة، من دون أن يوجه هذا الفقهُ أصابعَ الاتهام للمسئولين عن تدهور الأخلاق العامة ونظم الإنتاج. فتوجه للشكلانية الفقهية بأن يرفضَ العصرَ وحداثته، وعمم الشر والفسوق من الأفكار إلى العادات، ولم تكن له دقة فقهية تشخيصية، فدفعه اليأسُ وقلةُ التبصر إلى الانسحاب من الحداثة، ثم إلى خلق عالمٍ موهوم ضيق لجماعة المسلمين لا تغادره قيد أنملة كما كانوا يقولون. وكان قصدهم نبيلاً لحماية المسلمين من التغلغل الأجنبي الغازي، لكن كان فهمهم محدوداً، وأدت أفكارهم على العكس إلى سيطرة الأجانب على المسلمين. وهذا المخزون الثقافي لايزال العقلُ الديني المحافظ يستخرجُ منه أحكاماً وشعارات، وهو يرفض قراءة الظواهر(المشبوهة) فما بالك بالتعامل النقدي التغييري لها؟ وهو أمرٌ لا يصدها ولا يغير منها، بل يفاقم من انتشارها ومن أمراضها. وهكذا لا يمكن إيقاف الموسيقى الغربية الزاعقة الشبابية، لأن العقلَ المحافظَ يرفضُ الموسيقى عامة، عوضاً أن يوجه الشباب لموسيقى جميلة تغرسُ أرجلَهم الضعيفة الهشة أرضنا وقضايانا، لكونه لم يستطع حتى أن يفهم الفنون في ضوء الإسلام، حاشراً إياها في رسوم وموسيقى (عبادة الأصنام) التي انقرضتْ منذ قرون. ولهذا فإن مسائل السياحة شديدة التعقيد، ولهذا فإن جلب الأجانب إلى عالم المسلمين يغدو كارثة، وتكون السياسة الوحيدة هي المنع وهي مستحيلة حتى في الماضي فما بالك الآن؟ وتكون الحجة لديهم: «انظروا البلدَ المغلقَ وكيف تستتبُ فيه الأخلاقُ«، في حين ان البلد المغلق ينتظر انفجاراً رهيباً. إن البلدانَ المغلقة هي أسطورة بحتة. فلا يحدثُ حقيقة أي درس للظاهرة الشائكة، ولماذا يجرى هذا الجلب، وأي رؤوس أموال في البلد المصدر هي التي تصنع ذلك وما هي الرؤوس المالية التي تستقبل، وبأي شروط اقتصادية واجتماعية مجحفة يحدث هذا التبادل؟ وكيف أن هؤلاء الأجانب يعيشون في شقق ضيقة بأعداد كبيرة، وتترتب على وجودهم مخاطر صحية لهم وللبلد، فلابد من توفير المساكن الصحية ومعرفة الأمراض وفحص الأجانب، وتحديد هذا الاستغلال الفاحش وتغييره. ولكن دفن الرؤوس في الرمال أسهل طريقة لعدم المعالجة، وهو أمرٌ يترك لفئات أخرى استغلال الموقف، عبر الاقتحام والكمائن والتغريم وشفط أموال أخرى من هؤلاء البؤساء المعرضين لشتى الشباك. وتحدث المداهماتُ والمصادراتُ من دون إذن من النيابة ومن دون عرض القضايا بوضوح على الرأي العام. وبدلاً من مناقشة هذه المسائل بوضوح وتقنينها تـُترك للإدارات الحكومية كلٌ في اختصاصه أن يتصرف على ما يهوى ويستفيد، في حين يعجز رجالُ الدين عن التدخل العقلاني والوطني والأخلاقي في مثل هذه القضايا الكبيرة، بدعوى البعد عن تحليل ما حرمهُ الله، ولكن إذا كان هذا صحيحاً فلا يمنع ذلك من تخفيف الآثار الوبيلة لما هو مُحرم، وكذلك التدرج في محاربته وبث الوعي وتقديم البدائل الإسلامية منعاً لاستفحاله، فانتشار الأمراض الخطيرة أهم من تحريم الفقه الشكلاني. فهو شكلاني لأنه لا يعالج الظاهرة بل يدفن رأسَهُ في الرمال الاجتماعية المعقدة، أو يرفعُ لافتة براقة من دون معالجة المصائب على الأرض الملموسة. إنه فقهُ المنع والمصادرة القائم على ماضي جماعة المسلمين المعزولة المسيطرة على عالمها، وهو فقهٌ سهلٌ، لكن هذا لا ينفع في هذا العصر، حيث ان البناية الواحدة الآن تجمعُ بشراً من مختلف الديانات فهذا يحرمُ لحمَ البقرة وجارهُ يأكلها. ومن جهةٍ أخرى فلا نوافق على حجج جماعة الحرية المطلقة وجلب كل شيء من دون رقابة وإخفاء المعلومات والظاهرات بسبب الخجل أو التهرب من الحقوق الاقتصادية، ويغدو بعض أصحاب هذه الحجج هم المستفيدون من جلب العمالة السياحية، وهم يؤيدون الحرية هنا فقط ويمنعونها في مناطق أخرى.
 
صحيفة الايام
2 اغسطس 2008