لذلك فإنه سيذكر هذا اليوم طويلا، سيذكره بمقدماته وبنتائجه المدمرة وبالملابسات الكثيرة التي أحاطت به ودفعت إلى واحدة من الكوارث الكبرى في التاريخ العربي المعاصر التي لا تزال امتداداتها وذيولها مستمرة على صورة تمزقٍ عربي لم نشهد له مثيلاً، وعلى صورة مرارات نفسية استقرت في الأعماق، وعلى صورة وعي مهتز اختلطت فيه المفاهيم والقناعات، وانزاحت الخطوط عن مواقعها وتداخلت القيم. وبدا أن ما بذلته أجيال سابقة من تضحيات في سبيل ترسيخه قد انهار في غمضة عين. ولم يسبق وأن كان العالم العربي مكشوفاً على الخارج أو مطوقاً بالقيود المرئية وغير المرئية ومحاصراً في حركته وفي خياراته من قبل الآخرين كما هو الآن، ولم يسبق أن تضاءل هامش المناورة أمام العرب حتى كاد ينعدم كما هو حادث اليوم. في جو صيفي حار ومحموم وسط تعبئة نفسية محمومة وتنطح لأدوار الزعامة التي هي فوق طاقة مدعيها، كانت القوات العراقية تتقدم إلى الكويت، فيما كانت تباشير النظام الدولي الجديد قد لاحت في الأفق بعد أن اتضح أن أفول القطب الدولي الآخر بات قاب قوسين أو أدنى.
كانت المغامرة تذهب إلى أقصاها وسط قراءة ساذجة لمتغيرات الوضع الدولي محفوفة بجنون العظمة وغطرسة القوة ووسط صمت مر، ونكاد نقول تواطوء خارجي مستتر لدفع الجميع إلى المصيدة الكبرى.. ولا داعي لإعادة سرد فصول المشهد التي أصبحت مُملة لكثرة ما سردت. لقد وقعت الواقعة، ودفع الجميع ثمنها ولا يزالون يدفعون.
حري بنا اليوم أن نتذكر ضحايا الكارثة، نتذكر عذابات الشعب الكويتي فترة الاحتلال ونتذكر أسراه، ونتذكر الأسير الأكبر: الشعب العراقي الشقيق الذي يدفع الأثمان مضاعفة على جرم اقترفه من جاءت بهم سوء الأقدار ليحكموه، ويسام سوء العذاب لأن اللعبة الدولية الكبرى التي دفعت لحرب الكويت ونتائجها أفرزت الوضع الحالي في العراق، الذي استباحته الديكتاتورية لعقود، ثم جاء أوان الاحتلال وهيمنة زعماء الطوائف والمذاهب وميليشيات التكفير وعصابات الإرهاب المصدر من خارج الحدود.
لقد وقعت الواقعة! ودفعت أثمانها مضاعفة وطال أمد النفق الذي أدخلت العراق والمنطقة فيه، بحيث بات الخروج منه ضرورة ليس فقط لاستعادة العراق ومكانته ودوره ومهابته الإقليمية والعربية، وإنما أيضا استخلاص الدروس الضرورية من هذه الكارثة، وهو أمر لا يبدو أن بعض الأنظمة العربية في وارد الانتباه إليه، حيث أنها تكرر الحماقات ذاتها،على نحو ما نشهده الآن في ملف دارفور بالسودان غير آبهة بمكر التاريخ الذي إذ يأتي، فانه يأتي في صورتين، واحدة على شكل سخرية والثانية على شكل مأساة.
صحيفة الايام
2 اغسطس 2008