في المناخات السائدة الآن في الساحة المحلية المنطلقة من وحي توجيهات ودعوة عاهل البلاد حفظه الله فيما يخص موضوع الوحدة الوطنية والثوابت الوطنية، وأمن واستقرار البلاد، ونبذ آفة الطائفية والابتعاد عن كل ما يبث روح الفرقة والانقسام وإثارة المشكلات ودعوة علماء الدين إلى الحوار في سبيل الوصول إلى خطاب يدعم ثوابت وأولويات الوحدة الوطنية، ويبتعد بنا عن منزلقات الفتن والشحن الطائفي والأعراف الطائفية، والنصوص الطائفية، ويوقف تسويق الحجج والأعذار التي تعمق الطائفية في النفوس.
في هذه المناخات، فإن أخشى ما نخشاه أن نعطي الفرصة لهؤلاء الذين عرفناهم بأنهم ينتجون الفرقة ويبثون كل ما يكرس الانقسام ويخلق التجاذبات والخصومات والمعارك الوهمية والشحن الطائفي بأن يستغلوا ويستثمروا هذه الأجواء، ويسارعوا من دون خجل أو حياء إلى تغيير جلدهم ليحملوا رايات وطنية نبيلة ويصبحوا من دعاة الوحدة الوطنية، ورفض كل ما يؤجج نار الأحقاد باسم الطائفية والمذهبية وكأنهم استفاقوا من نوم عميق في صورة مفاجئة بالغة الفجاجة قد تستعصي على الفهم ولكنها تحمل كل ما يمكن حشده من علامات الاستفهام والتعجب.
هؤلاء المشهود لهم وبامتياز بأنهم وقفوا وراء الكثير من الاحتقانات الطائفية وشجعوا قدرتها الفائقة على التناسل، وعمقوا الجرح الطائفي، وطأفنوا كل قضية وطنية، وحولوا كل عمل وطني، وكل شأن عام إلى قضية طائفية عن علم أو غير علم، عن قصد أو غير قصد، والذين كلما ضاعت منهم حجة جاءوا بغيرها، وكلما طاش لهم سهم سارعوا يبحثون عن سهم آخر، ويصوبون ولا يهم أين يستقر هذا السهم في جسد مواطن أو في قلب الوطن، وأصبحوا بلا منازع من أرباب الطائفية، هؤلاء لا يمكن أن يقنعوننا اليوم في تصريحاتهم وكتاباتهم وأحاديثهم وخطبهم بأنهم اليوم أصبحوا فجأة ضد العقلية الطائفية ومن حماة المجتمع، ولن نصدق قدحهم وذمهم للطائفية، ويتعذر علينا أن نعير انتباهاً لدعوتهم المجتمع البحريني بتفادي شباك الطائفية وتخطي الحالة الطائفية واعتبارها جريمة بحق الوطن وبحق المواطن وبحق المستقبل، حيث لم يسقط من ذاكرتنا عراكهم ونزالهم الطائفي وتسخير أدواتهم في سبيل كل ما يكرس التناقضات والتوترات المذهبية، ويشرّع الأبواب لجعل الناس المنفتحين والمتسامحين والمتآخين إلى جماعات تتبادل الشكوك والاتهامات وتفتعل المعارك الوهمية.
هؤلاء الذين أعطى بعضهم لنفسه الحق في التحدث باسم المواطنين، وظهروا لنا وكأنهم مفوضون بالحديث باسمنا رغماً عنا، صالوا وجالوا في أكثر من مشهد عبثي لم يتورعوا فيه عن بث كل ما يسيء ويضرب الوحدة الوطنية في الصميم، وباتت الكلمات التي ينطقون بها عن الوحدة الوطنية، والوفاق الوطني، والحرية والديمقراطية والمصلحة العامة، والتسامح وتماسك المجتمع، والنسيج الوطني فاقدة لمضامينها ومعانيها لكثرة تداولهم لها ولكثرة ما أساءوا استغلالها في غير مواضعها الصحيحة، ولم تعد تجد صداها في نفوسنا أو تجد تأثيراً في أحاسيسنا، وصرنا نتجاهل سماعها أو ننفر من وقعها اذا تطرقت إلى أسماعنا لأن من يتبنونها يفتقدون المصداقية وغير جديرين بالثقة وغير مؤهلين بأن يحملوا تلك الرايات التي في رأينا تأخذ الطابع المناسباتي الذي يتبارى فيه الكل إلى نقد ورفض الطائفية، يكتبون ويحاضرون ويناقشون مخاطرها وتداعياتها على الأمن والاستقرار والوضع الاجتماعي، وكأن لا دور لهم في احتضان ورعاية الطائفية، وفي امتدادها إلى كل شأن من شؤوننا السياسية والثقافية والاجتماعية والنقابية والإدارية وحتى الاقتصادية.
هل يمكن أن نكون سذجاً إلى حد لا يصدق ونقبل هذا التحول المفاجىء لهذه الفئة من الناس التي من الواضح أنها تتلون مع كل ظرف، وتحاول مع كل وضع أن توجد لها دوراً وحضوراً، وهمها أن تضفي المشروعية على تحركاتها وأقوالها ومواقفها رغم أنف الجميع، وكل واحد من هؤلاء يظن أنه نجح في خداعنا لكي نصدق أنهم حقاً فرسان الوحدة الوطنية، ورموز المنطق والعقلانية في شؤون الوطن والعباد.
سيكون من الخطأ الفادح أن نسمح لأكثر الناس إثارة للنعرات الطائفية، وأكثر الناس لعباً على أوتار الانقسامات والحساسيات المذهبية والطائفية والمناطقية، وأكثر الناس اختراعاً للأعذار والتبريرات التي تسمم الأجواء وتنفث السموم والأحقاد والعصبية، أن نسمح لهم بخداعنا وأن نقبل ما يطرحونه بالحفاوة والارتياح والقبول، وسيكون الخطأ الأفدح اذا قبلنا أن يمر علينا هذا العبث وكأن شيئاً لم يكن، وسمحنا لهؤلاء بأن يظهروا لنا حاملين رايات الوحدة الوطنية والنابذة للطائفية وكل أشكال الفرقة والانقسام، فيما هم في حقيقة الأمر من رواد صناعة الطائفية ولازال كل واحد منهم مشروع فتنة تؤسس لخلاف واختلاف على طريق الصراط الطائفي المستقيم.
لاشك أن هناك شخصيات من علماء دين وسياسة ونواب وأعضاء في مؤسسات المجتمع المدني تحظى بكل الاحترام والثقة والمناقبية ونظافة الكفة والكفاءة على المستوى الوطني العام، مؤهلة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية التصدي لكل من يريد أن يركض بنا ركضاً شديداً، ولكنه ركض لا يتقدم بنا خطوة إلى الأمام، وسيكون مأزق كبير، لا بل وخطير اذا لم يدرك أرباب الطائفية أن الطائفية فخ يجب تجنبها لا فرصة يمكن استغلالها، كما سيكون المأزق أكبر اذا سمحنا أو تساهلنا بأن يكون أرباب الطائفية هم الذين يقودون أو يشاركون معنا في محاربة الطائفية، لأن حصاد هذا الجهد الوطني سيكون عندئذ قشاً فارغاً بلا محصول، ونجد أنفسنا ساعتئذ أمام قش بمواجهة العواصف تائهين وسط شعارات كبيرة وصغيرة نرفعها لنخفي عجزنا ولا نعرف على أي أرض نقف ومن أجل أي هدف نستهدف، وأي سبيل يجب أن نسلك.
صحيفة الايام
1 اغسطس 2008