لا بد لعلم الوعي العربي السياسي الجديد من الحفر تحت المصطلحات المجلوبة لفضاء الثقافة العربية، ومتابعة عملية الجلب ومصادرها وكيفية انغراسها في البنى الاجتماعية العربية وأسباب ذلك، وعملية بقاء أو انهيار المصطلح وأسباب ذلك أيضاً. وقد كانت مصطلحات (الرأسمالية) و(الاشتراكية) و(الإقطاع) هي السائدة في الأدبيات التقدمية فظهر مصطلح(اللارأسمالية) فجأة في غمرة صراعات سياسية عربية طاحنة بين الخمسينيات والسبعينيات، حيث زال بعدها هذا المصطلح وكأنه لم يكن! كتب عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي منير أحمد في مجلة قضايا السلم والاشتراكية في كانون أول 1964 ما يلي: «إن النضال من أجل الطريق اللارأسمالي يحتم علينا إعادة النظر في برامجنا في جميع ميادين النشاط الجماهيري. كان الحزب الشيوعي العراقي يعتقد في الماضي أن إقامة حكم شعبي تحت قيادة الطبقة العاملة هو شرط جوهري لتحقيق الاصلاحات الجذرية ولبناء الاشتراكية في العراق، إلا أننا غيرنا وجهات نظرنا حول هذه المسألة في ضوء الظروف الجديدة، حيث يشكل النضال من أجل الطريق اللارأسمالي الخط السياسي لحزبنا«. لابد هنا من قراءة مصطلحات أخرى في هذا الاستشهاد تتداخل مع مصطلح اللارأسمالية، مثل مصطلح (بناء الاشتراكية) الذي يجب أن يجري تحت (قيادة الطبقة العاملة)، لكن هذا الخط تغير حسب هذا الاستشهاد. وفي تلك السنوات كان حكم عبدالسلام وأخيه عبدالرحمن وكان حكم عبدالناصر في مصر، وقد دخلت الحركتان (الناصرية) و(الشيوعية) في شهر عسل أو بداية شهر العسل، وطـُرحت اقتراحات لعملية اصطفاف جديدة، تذوب فيها الأحزاب الشيوعية العربية وتندمج في الأحزاب الوطنية الحاكمة التي اتخذت اسم(الاتحاد الاشتراكي) وهو حزب أقامته السلطتان المصرية والعراقية في تلك السنوات ونجح إلى حد ما في مصر في تذويب الأحزاب المستقلة تحت هيمنة السلطة، في حين ان ذلك لم ينجح في العراق، لرفض الحزب الشيوعي عملية تذويبه، ولكن بعض الأصوات ارتفعت لتأييد هذه العملية، وفي هذا الخضم ظهر مصطلح اللارأسمالية كما بدا في الاستشهاد أعلاه. إنه مصطلح لا يمت بصلة إلى مفاهيم العلوم الاجتماعية المنبثقة عن المادية التاريخية، وهو مصطلح سياسي شعاري بامتياز، لكن ما هي أسباب ظهوره السياسية؟ لقد تم التخلي هنا عن الهدف القديم الذي ظل في هاجس الحركة الشيوعية العربية وهو(إقامة سلطة تحت هيمنة الطبقة العاملة) أي تحت قيادة الحزب الذي يجعل الطبقة العاملة واجهة له. ففي عملية المساومة مع النظامين الوطنيين العسكريين الشموليين في كل من مصر والعراق تم التخلي عن هيمنة(الطبقة العاملة) من دون أن تصوت هذه الطبقة على تغيير قيادتها أو تعبر عن رأيها، بل قررت (قيادتها) ذلك، للتقارب مع قيادة النظامين وسلك طريق مشترك، نصح به خروتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي الأب الراعي للحركة الشيوعية العالمية وقتذاك، إلى درجة أنه نصح الحزبين الشيوعيين في كل من العراق ومصر بالذوبان في الاتحاد الاشتراكي وهي نصيحة رفضها الشيوعيون العراقيون وقبل بها الشيوعيون المصريون. ومن جهة لم يتم التوصل إلى فهم البنية الاجتماعية في كل من مصر والعراق، وواصل الفهم السياسي التبسيطي سيطرته على المفاهيم العملية لعلم الاجتماع المادي التاريخي، فلم يُعرف ما هو النظام في كل من مصر والعراق، وبدا أنه (الطريق العربي للاشتراكية) أو هو الطريق اللارأسمالي الذي يرفض(الاشتراكية السوفيتية) والرأسمالية الغربية معاً، لكن مصطلحي (الإقطاع) و(الرأسمالية) لم يلصقا بهذه الأنظمة الشرقية الشمولية، نظراً لقدرتها على حجب المصطلحات العلمية وطرح تسميات سياسية مُخترعة من عندياتها، ثم تبديل هذه المصطلحات سواء بتصديرها إلى الخارج عبر مصطلح اللارأسمالية، أو عبر استيرادها العربي، ويحدد ذلك الطرفُ القوي المسيطرُ في العمليتين العالمية أو الوطنية، وفي حين يتمكن النموذج العراقي الشيوعي من المناورة السياسية عبر تقبل المصطلح الزائف نظرياً وخرقه عملياً بعدم حل الحزب والاستمرار في الاستقلال، إلا أن ذلك يشير إلى هشاشة الموقف وحربائيته وخطورته المستقبلية كذلك في عدم درس بنية الاقطاع العربي والمراهنة على رأسمالية الدولة الشمولية التي يقيمها النظام الإقطاعي العربي لتحفظ ذلك البناء، في حين ان الحزب الشيوعي المصري يبلعُ الطعمَ فكراً وتنظيماً. وهكذا فإن الاستيراد العربي هنا في هذ المصطلح الذي قامت به النخب في كل من الاتحاد السوفيتي ومصر والعراق يعكس تبدل العلاقات السياسية، وقدرتها على تغيير المصطلحات العلمية والتجارة بها ويحدث تحت مظلتها الكثير من المشكلات السياسية والتنامي للدكتاتوريات الشرقية.
صحيفة اخبار الخليج
31 يوليو 2008