الثلاثاء الماضي وصل الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى موسكو في زيارة هي السادسة من نوعها. لكن هذه الزيارة تختلف هذه المرة في أبعادها الاستراتيجية.
أعلن شافيز أنه يحمل إلى الرئيس الروسي الجديد دمتري ميدفيديف تحية من صديقه ومعلمه القائد الكوبي فيديل كاسترو، مشيرا إلى البعد القاري لهذه الزيارة في أميركا اللاتينية. مدفيديف أضاف لها بعدا آخر حين أكد على أن ‘العلاقات بين روسيا وفنزويلا لا تحمل طابع الثبات فقط، بل والدينامية أيضا’. والأرقام تعزز ذلك بالفعل. التبادل التجاري بين البلدين ينمو بتسارع حثيث. فخلال العام واحد فقط قفز حجمه من 517 مليون دولار العام ,2006 متضاعفا إلى ما يزيد على المليار دولار العام .2007
شركات روسية عملاقة مثل ‘غازبروم’، ‘لوك أويل’ و’روسيسكي ألومينيي’ قد ترسخت في السوق الفنزويلية منذ زمن بعيد. وشركات أخرى سجلت حضورها بقوة أثناء الزيارة الأخيرة. وبعد انتهاء المباحثات ذهبت صحيفة ‘ازفيستيا’ حد القول بأنه ‘يبدو وكأنه لا توجد هناك علاقات أكثر توطدا من تلك التي بين كراكاس وموسكو’.
الاتفاقيات التي وقعت أثناء الزيارة ستسمح لروسيا بمساهمة أكبر في قطاع النفط والغاز ليس في فنزويلا فقط، بل وكل أميركا اللاتينية كما قال شافيز. بحضور الرئيسين وقع المدير التنفيذي لشركة – جيرمان خان ووزير الطاقة والنفط الفنزويلي، رئيس شركة (بتروليوس دي فنزويلا-PDVSA) النفطية الحكومية روفائيل راميريس كاررينو اتفاقية حول التنفيب المشترك في مجمع ‘أياكوتشا -‘2 في مقاطعة أورينوكو الغنية بالنفط. رئيس شركة ‘لوك أويل’ فاجيف أليكبيروف والسيد كاررينو وقعا مذكرة تفاهم واتفاقية حول التنقيب المشترك في مجمع ‘خونين -‘3 في شريط ‘أورينكو’ النفطي. ووقع نائب رئيس إدارة ‘غازبروم’ ألكسندر ميدفيديف وكاررينو اتفاقية حول الإصدار المشترك للشهادات والتقييم الكمي لاحتياطات مجمع ‘أياكوتشا – ‘3 في شريط أورينوكو النفطي. غير أن التعاون في حقول نفطية بعينها لم يستنفد إمكانيات التعاون. فقد جرى الحديث أيضا عن إنشاء ‘أوبك غازي’ – اتحاد البلدان المنتجة والذي يمكن أن يسمح لها بالتنسيق من أجل وضع شروط اللعبة في سوق الغاز العالمية.
وبالرغم من أنه لم يتم اتخاذ قرار بهذا الصدد بعد، إلا أن ميدفيديف إلى جانب شافيز أكد على أن من الخطأ اعتبار هذ الملف مقفلا. وطرح فكرة ‘أوبك الغازية’ من جديد وعلى مستوى قارة جديدة سيعطي لها دفعة عملية أقوى وبعدا عالميا أكثر سعة. كانت هذه الفكرة قد استفزت واشنطن مرارا في السابق حين طرحت بين موسكو وكل من الجزائر وإيران وقطر في السنوات الماضية. غير أن ذلك ليس الأمر الوحيد الذي قض مضاجع المسؤولين في واشنطن بنتيجة هذه الزيارة.
كان التعاون التقني العسكري هو الموضوع الرئيسي في لقاء شافيز مع رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بالرغم من أن بوتين عبر عن طموح أكبر في تنويع العلاقات الروسية الفنزويلية حيث توجد آفاق رحبة للتعاون في مجالات المواصلات والفضاء والتكنولوجيات العلمية.
وكما أوضح روسلان بوخوف، مدير معهد تحليل الاستراتيجيات كانت فنزويلا قد تقدمت بطلبات لأنواع من الأسلحة التي لم يجر اختبارها بعد والتي لا يمكن لروسيا أن تبدأ في تصديرها قبل عامين أو ثلاثة من الآن. الحديث يجري عن طائرات مقاتلة من طراز ‘سوخوي -’35 وحوامات ‘مي – ’28 وغواصات من صنف ‘أمور’. أما موسكو فتعرض بيع الأسلحة التي يتم إنتاجها الآن. وحسب هذا الخبير فإن الخطط البعيدة المدى مع فنزويلا في مجال التعاون التقني العسكري تنطوي على نوع من المخاطرة. أما صحيفة ‘غازييتا’ فذهبت في تفسير ذلك إلى أبعد، أي بتخوف روسيا من احتمال أن يقوم شافيز بتحويل بعض هذه الأسلحة إلى بلدان متورطة في مشاكل إقليمية في المنطقة مثل كولومبيا.
غير أن جوانب أخرى من التعاون العسكري بين البلدين كانت من أشد ما يزيد أوجاع دماغ الأميركيين. لقد اقترح شافيز على أصدقائه الروس نشر قواعد عسكرية في هذا البلد من القارة الأميركية اللاتينية. وجوابا على سؤال صحافي قال شافيز بالحرف الواحد ‘إن لدى روسيا إمكانيات كافية لضمان وجودها العسكري في مناطق مختلفة من العالم. وإذا ما رغبت القوات المسلحة الروسية بمثل هذا الحضور في فنزويلا فستجـــد ترحيبــا حارا’.
ومهما كان وقع موافقة شافيز على وجود عسكري روسي في فنزويلا كبيرا على الأميركيين، فإنه أيضا يفوق كل توقعاتهم وحدود قلقهم. فقد دعاهم أيضا إلى بناء نظام للدفاعات المضادة للطيران. ويرى بعض الخبراء أن ذلك يعني أن الرئيس الفنزويلي من حيث الجوهر اقترح على الروس شكلا من أشكال الرد المناظر على نشر عناصر نظام الدفاعات المضادة للصواريخ الأميركية في أوربا الشرقية. وفي الأسبوع الماضي فقط أبدى الأميركيون انزعاجهم تجاه الأخبار حول إمكانية استخدام مطار في كوبا من أجل إعادة تزويد الطائرات الإستراتيجية القاذفة الروسية بالوقود. وكان مصدر دبلوماسي عسكري في موسكو قد أكد لوكالة ‘إنترفاكس – أ ف ن’ الإمكانية النظرية لسيناريو كهذا: ‘في حال اتخاذ مثل هذا القرار السياسي فستتمكن الطائرات الحاملة للصواريخ طراز ‘تو – ‘160 و’تو-95 إم إس’ من استكمال تزودها بالوقود في أحد المطارات الكوبية. وقال أن الخبراء الروس قد أعدوا مقترحا بهذا الصدد.
وبالرغم من أن شافيز اعتبر رقم 30 مليار دولار مبالغا فيه كقيمة للصفقات المبرمة في مجال التعاون التقني العسكري بين البلدين على مدى الأربع سنوات القادمة، إلا أن مؤسسة ‘فينماركت’ أشارت إلى أن ما تم أو يجري الآن إنجازه على أساس الصفقات السابقة يبلغ حوالي 4 مليارات دولار. وعلى حد تعبير شافيز ‘إننا نسير وأشرعتنا مفردة على الآخر’.
في بعد ثالث، هو الآخر بالغ الحساسية بالنسبة لواشنطن التي تقع الآن في قلب الأزمة المالية النقدية العالمية، كرر شافيز في موسكو الحديث عن انبعاث روسيا المتسارع إلى درجة أن عبر عن ثقته بأن الروبل الروسي سوف يصبح عملة عالمية قريبا. وقد دعا شافيز بوتين لزيارة كراكاس، ربما مسمعا واشنطن قوله: ‘سنرفع الأعلام ونقرع الطبول ونصدح بالأغاني عندما سيأتي أصدقاؤنا الذين تجمعنا وإياهم نظرة مشتركة للعالم’.
حقا لقد بدأ هذا العالم في التغير.. ابتداء من ‘الفناء الخلفي’ للولايات المتحدة نفسها.
الوقت 28 يوليو 2008