عندما اشتغلت على فكرة الإنسان والجدار ، كانت نيقوسيا ضمن مشروع الكتاب كأربع مدن مقسمة ،ضمن إحدى عشر بلدا كان مقسما في العالم، ابتداء من فيتنام وكوريا وانتهاء بايرلندا. وكان ضمن احد فصول الكتاب فصل بعنوان »الكتابة على الجدران / الكرافتي« فجمعت ما يمكن جمعه من تلك المنمنمات والجمل الجميلة التي يتركها الناس على وجه ذلك الكائن الصامت ، فيسكبون هناك كل معاناتهم ، فتجذبك بعض الجمل الجميلة. ومن ضمنها نص تركه شخص أو مجموعة قررت ترك بصماتها هناك فوقعوا تحت النص جملة واحدة »المحبطون«. فقد نفذ صبرهم من الساسة ، الذين كثيرا ما وعدوهم بحل المشكلة ، فتمدد الزمن إلى ما يقرب الأربعين عاما على تقسيم قبرص بما فيها تقسيم العاصمة نيقوسيا. يومها حفر المحبطون جملتهم الشهيرة »نيقوسيا لا احتملك فأنت مقسمة« وكأنما عاشقا لا يمكنه رؤية حبيبته مكبلة خلف نوافذ الهجران ، أسيرة لسطوة الوقت وجبروت القوة.
أرى كيف تتدافع جموع من الناس نحو الشارع الرئيسي في نيقوسيا عندما تم اتخاذ قرار فتح »نقطة تفتيش« مهمة هي شارع ليدرا. فكيف يتخيل القارئ البعيد مشاهد وكالات الأنباء وهي تنقل خبرا مراوغا قد يقودك لحقيقة ناقصة ، وهي بتعبير كل ساسة قبرص، إن إزاحة الممنوع من هذا الشارع كنقطة عبور جديدة ليست إلا شرخا صغيرا في جدار كبير لا بد وان يتهاوى.
ذلك التهاوي بدت البالونات الوردية المتطايرة يوم الافتتاح نقيضا لذلك العالم ، فغمر الناس فرحا كعادة أي شعب ، عاش زمنا في لوعة التقسيم لوطن محتل بقوة العسكر ودباباتهم. ولكن الفرح بدا عابرا للحظة عندما اكتشف القبارصة اليونانيون، أنها ليست حلما يلامس حلم إزالة جدران التقسيم برمته وتسوية كاملة للمشكلة العميقة بين طرفين، وجدا نفسيهما في مأزق هو البيت الأوروبي الجديد، فاحدهما عضو فيه والآخر مقبوض عنقه بنياشين العسكر. وهذا ما قاله »ياسر بوكانيت« رئيس الأركان التركي مرتديا بدلته المدنية أثناء تدشين فتح تلك النقطة الحدودية »إننا باقون هنا !!« حتى وان تم حل المشكلة »وبذلك يرد بصفعة قوية على مطالب القبارصة الذين يطالبون باستئناف المباحثات ، و قد طرحوا احد شروطهم فتح نقطة تفتيش« ليدرا »هو ابتعاد مظهر وجود العسكر من تلك النقطة ، غير أنهم كل ما فعلوه نقلوا تلك الحراسة العسكرية لبضعة أمتار ، ولكنهم سرعان ما حاولوا تعكير صفو التحضيرات بين الطرفين ، حيث تقدموا إلى عدة أمتار خارجا عن المنطقة المسموح بها .
ونتيجة هذا الإرباك قطع الرئيس القبرصي يومها زيارته في لندن وعاد على عجل ، وبالمثل فعل طلعت الذي كان يتباحث في أنقرة حول الاستعدادات لصيغة الحوار القادمة. وقد اتفق الطرفان بعد فتح نقطة التفتيش الجديدة في شارع ليدرا، على أن يلتقوا للنقاش التفصيلي في كل شؤون المسألة السياسية إذ في هذه الفترة ، يتم إعداد اللجان الفنية التي ستناقش الأمور التفصيلية والآليات في كل القضايا والملفات.
وتعتبر ليدرا نقطة التفتيش السادسة في الجزيرة المقسمة التي تم فتحها، لكن أهمية هذه النقطة الحدودية، أنها تعبر عن دلالة سياسية مهمة، ورمزيتها أنها تقّسم العاصمة الرئيسية للبلاد. ويشكل هذا الشارع الأساسي امتدادا تاريخيا من الناحية المعمارية وبازارا حيويا في سوق العاصمة ومفتاحا للتسوق والجذب السياحي لعراقة وقدم الشارع، حيث تم تقسيم الشارع وغلقه عام ٣٦٩١، عندما تشابك القبارصة اليونانيون والأتراك، على أساس عرقي وطائفي، فكان شارع ليدرا أول عملية تقسيم من الناحية العملية والسياسية بعد نيل قبرص استقلالها عام ٠٦٩١.
ثم شهدت قبرص الطامة الكبرى في صيف عام ٤٧٩١، فتم تقسيم الجزيرة برمتها منذ ذلك الوقت. وتشكل المسافة الفاصلة بين نقطتي التفتيش في شارع ليدرا سبعين مترا، إذ تقام عند كل نقطة عازلة نقطة للتفتيش بين الجهتين المتنازعتين، وما يميز هذه النقطة إن العابرين بين الجهتين يمرون مشيا على الأقدام، وتبقى قوة الأمم المتحدة حاميا ومراقبا داخل السبعين مترا الفاصلة ، والتي تعتبر منطقة محايدة. والغريب إن نقاط التفتيش المتبقية تحكمها إجراءات مختلفة ، فهناك نقاط تفتيش تمر منها السيارات ، وهي بالطبع خاضعة للإجراءات التقليدية في كل جوازات العالم ، حيث تستخدم الجوازات والفيز الممنوحة عند نقطة التفتيش ، ويدفع الطرفان تعريفة الفيزا الممنوحة لمواطني وسكان الجزيرة المقسمة ، في وقت تشكل نقطتا تفتيش أخرى من الست المذكورة ، هو إن القبارصة اليونانيين لا يسمح لهم بالمرور منها ، بينما تسمح قبرص اليونانية للقبارصة الأتراك للعمل في الشطر الجنوبي.
تلك الإجراءات المعقدة ، لا يراها المراقب البعيد ، لهذا لم تكن فرحة القبارصة اليونانيين مكتملة ، غير أنهم تزاحموا يوم الافتتاح في شارع ليدرا باستخدام المنطقة العازلة بين نقطتي الحدود الفاصلة، بهدف رؤية ما هو يمكن رؤيته على الأقدام في الطرف الآخر من نيقوسيا الشمالية، التي كانت »محجوبة« بقوة الحراسة والمتاريس الترابية التي تم إزالتها، وبات اليوم بإمكان سكان نيقوسيا العبور للشمال من نقطة تفتيش جديدة، والمضي إلى هناك مشيا، ثم العودة كما يرغبون، وكأنهم يتحركون في شارع واحد بذاكرة مقسمة حتى الآن ، طالما هناك إجراءات التفتيش تقام في وطن واحد تتنازعه مشاعر الكراهية والسياسات المتوترة.
ما فعله الرئيس القبرصي الجديد والزعيم القبرصي التركي محمد علي طلعت، إنهما يرغبان بإعادة السلام للجزيرة، وإزالة كل مخلفات الماضي عبر حوار سياسي مضني، لن يكون بالطبع سهلا على الإطلاق.
صحيفة الايام
29 يوليو 2008