رضوخ شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية الوطنية ‘بتلكو’ العتيدة والعنيدة في جورها ليس تجاه موظفيها فحسب، بل زبائنها أيضا، للحكم القضائي – غير الملزم- بإرجاع المفصولين الأربعين من موظفيها إلى أعمالهم وذلك بإعطائهم مبدأ التفاضل والخيار الطوعيّ بين الاستمرارية في العمل أو الحصول على حوافز تعويضية مجزية، بعد تلكؤ وعناد دام بعض الوقت، لهو أمرٌ جديرٌ بالملاحظة والوقوف أمامه، لا يجب أن يمر مرور الكرام وكأن شيئاً لم يحدث! فحتى فترة سابقة قصيرة لا تتعدى أسابيع كانت تخرج علينا عبر وسائل الإعلام بتصريحات ناريّة على لسان كبار مسؤولي ‘بتلكو’ في صورة تحدًّ لكسر عظم العمال والموظفين المسرّحين، بل ظهورهم إن كانت المصلحة النفعية تستدعى ذلك!
لم يكن أحد من المواطنين يتصور في السابق مجيء يوم بهذه المفارقة، يكون بإمكان حفنة من عمال وموظفين فقراء كسر إرادة وعناد إحدى أقوى الشركات في البلد، وذلك باستخدام الوسائل القانونية المتوفرة، لا تتعدى الاعتصام السلمي الجامع (في المكان والزمان المناسبين)، ليس عن طريق التشنج والشحن والفوضى المناطقية والفئوية الذي لم ولن يحقق أي هدف.. لكن بطريقة قانونية وحضارية مع سلك درب القنوات القانونية المتوفرة وطرق باب العدالة ومقاضاة الشركة المسرِّحة لموظفيها أمام القضاء للبتّ في الأمر المتنازع حوله، فيما إذا كان الفصل تعسّفياً أم لا؟ والامتثال للكلمة الفصل المستقلة الصادرة من المحكمة الابتدائية التي تتطلب بالطبع كفاحاً لا يلين من اجل تنفيذها على الأرض.
مرد هذا النصر وإحقاق الحقّ القضائيّ للمُحِقّ، بتقديرنا هو التحول النوعيّ الواضح الذي نشأ في بلدنا البحرين مع دخوله الألفية الثالثة، حين كان قد اتفق على مشروع طويل الأمد لإصلاح تدريجيّ مأمول، لا يتحقق إلا بمشاركة عموم المواطنين في عملية الحراك الاجتماعي/ السياسي المتوفرة. وهذا التحول الذي ندّعيه يتجسد اليوم في انجازات عديدة لعل أهمها يتلخّص في مشهدين:
أولهما: أنّا نعيش الآن في مجتمع خاضع لقوانين مدنية (على علاتها)، فيها الفصل النسبي بين السلطات الثلاث واستقلاليتها، خاصة استقلالية القضاء البحريني المشهود التي ما فتئت تتعزز شيئا فشيئا.
ثانيهما: إنه لا توجد قوة مجتمعية ضاغطة ورافعة، من الممكن مقارنتها بقوة التضامن الموحد السلمي والقانوني الجامع كالجسم العمالي الذي باستطاعته لو توفرت الحكمة السياسية والوعي العلمي والعزيمة الراسخة، تفعيل وتعزيز مشروع الإصلاح نحو أفق أرحب.
لعل السؤال الذي يدور في أذهان العمال المفصولين والمواطنين المستهلِكين، زبائن شركة ‘بتلكو’.. ما هو السبب الأساس لتسريح العمال والموظفين في هذا الوقت بالذات؟ هل هو إعادة الهيكلة الوظيفية بسبب عنصر المنافسة في السوق المفتوحة؟ أو إجراء وقائيّ (استباقيّ) لإحلال العمالة الأجنبية المطيعة محل العمالة الوطنية، من مغبّة توجه الموظف البحريني إلى سلاح الإضراب؟ أو سياسة الأتمتة المتطلبة لتركز الإنتاجية الشديد وتقليص العمالة؟ يبدو أن الأسباب عديدة ومتداخلة، وقد تكون كل هذه الأسباب وغيرها مجتمعة.
شركة ‘بتلكو’ ناجحة بكل المقاييس، هذا ما تفيدنا تقاريرها التي تنشر تباعا في الصحافة ووسائل الإعلام. والإعلان عن الأرقام المتصاعدة باضطراد فيما يتعلق بأرباحها السنوية والدورية التي تدخل النشوة قي قلوب حاملي أسهمها الكبار والصغار، مواطنين أو مستثمرين عبر الحدود، حيث كانت ومازالت تحقق أرباحاً طائلة كل عام. يكفي أن نعلم أن الأرباح الصافية التي حققتها الشركة العام 2007 تجاوزت 100 مليون دينار بزيادة قدرها 6,13%، مقارنة بالعام .2006 وحققت الشركة أرباحاً صافية بلغت 4,27 مليون دينار في الربع الأول من هذا العام 2008! وعلى ذلك ورغم تقليص عنصر الاحتكار، فإن شركة ‘بتلكو’ ما زالت إحدى أكبر الشركات الاحتكارية، ولها من القوة والسطوة تصل إلى درجة الغرور.. ولا غرابة في أن المواطن يعتبرها دولة في دولة!
لعل العالم الآن سريع التغيير، ولا يمكن أن تستمر حال ما إلى الأبد، ومن هنا فإن شركة ‘بتلكو’ مجبرة الآن للرضوخ إلى آلية التنافسية والسوق المفتوحة العالمية التي كسرت شوكة الاحتكار لديها. تستدعي الضرورة الآن أن تضبط ‘بتلكو’ وتقلص إستراتيجية نموها في السوق المحلية، بسبب تقلص حصتها في السوق، بعد أن كانت لديها حصة الأسد في سوق الهواتف النقالة والثابتة بجانب خطوط الانترنت المتزايدة. حتى العام الماضي، حيث كانت تسيطر على 95%، مع نمو في عدد زبائنها اقتربت من نسبة حاجز الـ ,25 ليصل عدد الخطوط إلى 72000 خط. بينما حققت تقدما في سوق الهواتف النقالة بلغت نسبته 66%، إذ اقترب عدد الخطوط المستخدمة عبر ‘شبكة بتلكو’ للهاتف النقال من حاجز 000,,670 وتخطى عدد خطوط الهواتف الثابتة حاجز الـ 000,200 (حسب التقرير السنوي الصادر عن الشركة)!
والحقّ أنه لا يمكننا الكلام عن أية إستراتيجية تنموية اقتصادية من دون بعدها الاجتماعي والمعيشي للمواطن، أي من دون مشاركة وتفهم الشركات الوطنية الكبرى كـ ‘بتلكو’ – على سبيل المثال- للتنازل عن طمعها السابق. وتفهم أصحاب القرار السياسي بضرورة المحافظة على التوازن الاجتماعي عبر تطوير القوانين الإنتاجية والنقابية الحامية لحقوق المواطن الموظف والعامل حتى يتسنى له، كونه طرف المعادلة الثالث والأضعف من استيعاب فن اللعبة – إن صح التعبير – وذلك لأن النضال المطلبي الشاق المتعلق بلقمة عيش المواطن يشكل السبيل الوحيد المتوفر أمامه لتحسين وضعه والسعي لنيل حياة لائقة كريمة له ولعائلته.
صحيفة الوقت
27 يوليو 2008