المنشور

عن العنوسة وأزمة الزواج

لعل مشكلة الزواج هي أبرز المشكلات الاجتماعية التي أخذت تتفاقم حثيثا على نحو غير مسبوق تاريخيا في المجتمعات العربية والإسلامية خلال العقود الثلاثة الأخيرة وتقف وراء الأزمة أسباب اقتصادية واجتماعية قيمية متشابكة، ولكن تبقى المسببات الاقتصادية المتمثلة في ازدياد نسب البطالة وتدني الأجور بهذه البلدان في مقابل ارتفاع الأسعار في مقدمة العوامل التي تفاقم من المشكلة، أما الأسباب الاجتماعية الأخرى فلعل أبرز مظاهرها تخلخل المفاهيم القيمية الناجمة عن التشدد والتطرف الديني وازدياد العزلة بين الجنسين وتقلص مجالات وفرص التعارف بينهما. ولا تواجه المجتمعات الغربية والشرقية غير العربية وغير الإسلامية مشكلة زواج كالتي تواجهها المجتمعات العربية إذ ان نسبة كبيرة من شباب وشابات هذه المجتمعات لا تخطط أصلا للزواج، كما أن المطلقات والأرامل لا يشكلن مشكلة اجتماعية بحيث ينظر إليهن كفئة منبوذة غير مقبولة لدى الساعين للزواج لأول مرة، ومثلهن أولئك اللواتي سبق لهن أن دخلن في علاقات غرامية أو عاطفية مع شباب آخرين، وإن كانت هذه المظاهر غير مقبولة بوجه عام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية كما هو معروف.
كما لا تعرف هذه المجتمعات الغربية والشرقية ما يعرف لدينا بظاهرة «العنوسة« التي عادة ما توصم بها الإناث بعدما يتعدين سن الثلاثين غالبا من دون الرجال، علما بأن مجتمعاتنا العربية المعاصرة هي التي حرفت هذا المفهوم اللغوي لتخلعه وتقتصره على الإناث فقط حيث إن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات ذكورية في حين ان مصطلح ومفهوم «العنوسة« ينطبق على كلا الجنسين على حد سواء. ففي المعاجم العربية وعلى رأسها «لسان العرب« لابن منظور: العانس من الرجال والنساء: الذي يبقى زمانا بعد أن يدرك لا يتزوج. وعنست المرأة تعنس بالضم، عنوسا وعناسا وتأطرت، وهي عانس، من نسوة عنس، وعوانس، وعنست، وهي معنس، وعنسها أهلها حبسوها عن الأزواج حتى جازت فتاء السن ولما تعجز. وهكذا كما نرى فبالرغم من أن المعنى يشمل كلا الجنسين، الذكور والإناث على السواء، فإن بسبب الثقافة والقيم الذكورية السائدة في مجتمعاتنا العربية منذ حقب مديدة فإن مفهوم ومعنى العانس غالبا ما يتجه وينصب على المرأة وحدها، حتى بات نعتها بهذا المفهوم بمثابة وصمة عار تطاردها طوال حياتها ولا تطارد الرجل العنس، وكأنها بذلك هي التي اختارت أو ارتكبت جريمة «العنوسة« وليس المجتمع أو الضغوط الأسرية التي تسببت لها فيها، علما بأن ثمة نسبة غير قليلة من الرجال من تلازمه صفة العنوسة حتى بلوغه من العمر عتيا. وإذا ما نحينا ضغوط الأهل جانبا باعتبارها من العوامل التي تسهم في الأزمة الزواجية وتفاقم مشكلة العنوسة فإن البنت أيضا كثيرا ما يكون لتفريطها في اختيار الفرصة المناسبة من عدة فرص تعرض عليها أو تصادفها في حياتها سبب في دخولها ما بات يعرف بـ «مرحلة العنوسة«، ولربما ساهمت العوامل الاجتماعية الأخرى بهذا القدر أو ذاك في خلق مشكلة الزواج والعنوسة كبروز وصعود ثقافة التعصب القبلي والمذهبي، إذ ان انغلاق المجتمعات الفئوية على نفسها يفاقم من معدلات المشكلة. ولعل من أسوأ الاقتباسات التي استوردناها عن الغرب إلحاق مفردة أو مصطلح «آنسة« أو «سيدة« باسم الفتاة أو المرأة ليسبق ذكر اسمها، فبالرغم من أن هذه المفردة تسهم في تعريف المجتمع على تحديد وضعها الاجتماعي فإن استخدام هذه الصفة يشكل إحراجا للمرأة غير المتزوجة في حين يتمتع الرجل بلقب «السيد« مدى الحياة منذ دخوله سن المراهقة سواء أكان متزوجا أم غير متزوج. أليس هو بمثابة «سي السيد« بحكم الثقافة الذكورية السائدة وقيمها المتقادمة المهيمنة في مجتمعاتنا العربية؟
 
صحيفة اخبار الخليج
26 يوليو 2008