هناك نماذج من البشر تستوقفك من الوهلة الأولى لتبدأ معها بعد هذه الوهلة رحلة لا تعرف منتهاها، بل أحياناً لا تعرف كيف بدأت، لكنك ربما تعرف شيئاً واحداً، وهو أن هذه النماذج البشرية جديرة بالاهتمام والاحترام والتقدير.
واحد من هذه النماذج التي استوقفتني، محمد حميد الأسود، شاب يبلغ من العمر واحداً وعشرين عاماً، يعمل في أحد المحلات التجارية التي اكتسبت سمعة طيبة في السوق لبيعها الأجهزة المنزلية كالثلاجات والغسالات والماكرويف والشوايات وغيرها بجانب الأجهزة الإلكترونية والأثاث، وبيعها بأسعار مناسبة وبضمانات لا يشوبها غش أو خداع.
محمد حميد هذا الشغيل النشط الذي يتحرك ويحرك المتجر كخلية نحل، ربما، بل أجزم، أنه أحد أسباب هذه السمعة الطيبة للمتجر، فهو شاب مكافح منذ نعومة أظفاره، يدير المتجر بمهارة فائقة، ويتحدث اللغة الهندية كما لو أنه من أبناء القارة الهندية، ويوجه العمال الهنود وبلغتهم بدقة، وفي الوقت نفسه يتمتع بحاسة إدراكية نادرة في فهمه لذائقة المشتري، ولكنه الناصح وإن قل سعر الجهاز الذي وجهه إليه عن السعر الذي اختاره الزبون، يتعامل محمد حميد مع كل الأجهزة بوصفها أفراد عائلته، يعرف كل صغيرة وكبيرة عنها، ويعرف ما إذا كانت هناك أخوات أو إخوان لها في المخزن، ومتى ستأتي البضاعة الجديدة للمتجر، هناك أيضاً أجهزة تسهّل المهام أمام من لا يعرف اللغة الإنجليزية، محمد حميد يدلك عليها ببساطة، إنها ترشدك عبر لغتها العربية، وإذا استعصى عليك أمر ما محمد حميد يقصد منزلك أو مكان عملك ليحل لك المشكلة ببساطة شديدة.
محمد حميد يدعك لحظات مع نفسك لتقتنع في نهاية الأمر بأن اقتراحه كان صائباً ومعقولاً، وليعطي زبائن أجانب إنجليز أو غيرهم بعض وقته وليتحدث قدر الإمكان بلغتهم، وابتسامته الطفولية البريئة لا تفارق وجهه وحركته الخفيفة التي اعتادت التكيف مع زوايا المكان المكتظ بالأجهزة تجعلك تتوقع بأن محمد حميد سيباغتك هذه اللحظة من خلف أحد الأجهزة أو ربما من داخلها.
محمد حميد الشاب البسيط العصامي الذي يوزع جسمه ومرحه على جميع العاملين والزبائن في المتجر، يتعامل مع الكمبيوتر بمهارة أيضاً، فيدون حسابات ويخصم من هذا الزبون أو ذاك، ويحدد مواعيد، وكما لو أن محمد حميد الأسود هو كل شيء في المتجر، بل إني أحياناً أزعم أنه ربما يدرك أموراً لا يدركها مالكها.
محمد حميد لم يبلغ من الدراسة إلا الثاني إعدادي، لم يكمل دراسته، فهو منذ كان طفلاً يستيقظ مبكراً في قريته كرّانة ليباشر عمله في حصاد الخضروات وبيعها في سوق جدحفص، ليبدأ هناك في حوار مع الباعة والمشترين، مع جنسيات مختلفة، ليعود قريته مساء وبحوزته بعض النقود والكثير مما تعلمه في شؤون البيع والحياة.
محمد حميد اشتغل في المخازن الكبيرة وهو صبي مع الآسيويين وتعلم الكثير منهم وأهمها لغتهم، حمل العبء الكبير ولم يكف محمد عن التعلم والإصرار على التعلم كما لو أنه يرغم الفرصة أن تسمح له بالتعلم وتعويضه ما فقده من المدرسة مبكراً، بل إنه لم يكتف أن يكون عاملاً في المخازن فحسب، إنه إلى جانب ذلك كان سائقاً للمتجر، يوصل العمال والأجهزة إلى مكانهم الآمن من دون تذمر، ويعتبر ذهابه وإيابه في الباص بجانب العمال فرصة لتعلم ما لم يتعرف عليه بعد من لغتهم.
محمد تزوج مبكراً ولكنه يعرف مطالب الحياة والزوجية، فأغلب وقته يمنحه للعمل ولكنه بعقل راجح يرى أن بعد التعب راحة ويكفيه أن زوجته تتفهم حالته.
مثل محمد حميد الأسود كيف نصنفهم؟ إلى أي حد يتفهمهم أرباب العمل؟
هل يدركون الجهد والطاقة التي يبذلهما محمد حميد من أجل الترويج للمتجر؟ ولكن محمد حميد دائماً يبدي ارتياحه من عمله ومن القائمين عليه ذلك أن الإخلاص الذي يتحلى به من أجل الحفاظ على سمعة المتجر نادر كشخصه وبلا شك لا بد أن له مصادر قد يكون أحدها صاحب المتجر نفسه.
إن الجولة السريعة التي قمت بها وزوجتي في المتجر الذي يعمل به محمد حميد، عرفتنا على أشياء وخصال كثيرة تمتاز بها نماذج ربما أخرى من أمثال محمد حميد، والذين يتمتعون بتجربة وخبرة غير عاديتين في العمل، وينبغي أن يوضع لهما حساب حين يتعلق الأمر بالتوظيف، فليست الشهادة الأكاديمية دائماً هي المهم، فربما ما يتمتع به محمد حميد في تسويق بضاعة المتجر ينقص أهل دراسة في المجال، كما إن تعامله مع الزبائن والعمال يحتاجه كثيرون يعملون في إدارات العلاقات العامة وإدارات الأعمال.
محمد حميد الأسود ورشته الحقيقية هي الحياة، ولكنها المسؤولية أيضاً وليست اللا مبالاة، فهو يتحلى بصبر لا يستعجل فيه أمر راتبه أو ترقيته أو محصل شهادته، إنه يصغي جيداً إذا سألته وغالباً ما يجيبك باستحياء وإن كان واثقاً مما يجيبك عنه، إنه الشاب العصامي الذي تتمنى أن يكون المستقبل سنداً له، وأن يكون أنموذجاً يحتذي بتجربته وخبرته وبساطته وعفويته وصبره وإنسانيته كثير من الشباب، ومحظوظ من حظي بمحمد حميد في متجره لأنه حظي بذاته الأخرى في هذا المتجر، فأية ثقة بعده يحتاج؟
صحيفة الوطن
25 يوليو 2008