ليس بمستغرب ما يجري في زيمبابوي من أعمال عنف وملاحقات لرموز المعارضة السياسية، طالما جمهورية زيمبابوي هي أحد أنظمة دول العالم الثالث المشهورة بالدكتاتورية والانقلابات العسكرية والقبضات الحديدية. كما أنه ليس من الغرابة بشيء في أن يخوض الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي خلال جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية هو وحده من دون أي منافس له وبلا معارضة تذكر، بعد أن خسر في الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية في 29 مارس 2008م بنسبة 2،43% من الأصوات، أمام زعيم المعارضة «حركة التغيير الديمقراطي« مورجان تسفا نيجراي الذي كسب تلك الانتخابات بنسبة 9،47% من الأصوات..
ولكن بدلا من اعتماد نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع العام واحترام إرادة الشعب وأصوات الناخبين.. يقوم الرئيس موجابي بتزوير الانتخابات في جولة الإعادة بعد خسارته، لكنه يعلن في نهاية المطاف فوزه بالأكثرية الساحقة شكليا بينما هي مزورة جوهريا وبالتالي يلاحق المعارضة والتنكيل بها وقد جاءت نتائج تلك الملاحقات والمداهمات «قتل تسعين من أعضائها ومناصريها وإصابة أكثر من عشرة آلاف خلال فترة الانتخابات وتهجير أكثر من عشرة آلاف طفل من منازلهم وتحويل بعض مدارسهم إلى مراكز للتعذيب« بحسب ما أورده تقرير الأمم المتحدة.. ولعل من سخرية الأنظمة الأوتوقراطية وعلى رأسها نظام زيمبابوي في أن تهمش المعارضة وإبعادها عن المشاركة واتخاذ القرار ويلاحق رموزها ويفرض على زعيمها تسفا نجيراي بالانسحاب من الانتخابات لجولة الإعادة بعد فوزه في الجولة الأولى، مناشدا أنصاره التصويت لصالح الرئيس موجابي «لتجنب تعرضهم للأذى بل سيخاطرون بحياتهم إذا ما اقترعوا ضد موجابي« بحسب ما جاء على لسان زعيم المعارضة (تسفا نيجراي).. هكذا تظل المعارضة السياسية لدى دول العالم الثالث ليست مهمشة فحسب ولكن أيضا بث الرعب في نفوس مناضليها عبر ملاحقاتهم وترهيبهم والبطش بهم بالاغتيالات والمنافي والسجون والمعتقلات، وفي عدم الاعتراف بهذه المعارضة السلمية أو العقلانية تلك.. لعل القول يبقى صحيحا بهذا الصدد أنه مهما عظم شأن الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي بحمله ألمع الألقاب وكبرى التسميات كلقب أبي الاستقلال أو مناضل في تصديه الاستعمار الأجنبي ونضالاته ضد نظام التمييز العنصري برئاسة الرئيس الروديسي أيان سميث آنذاك، ومعاداته الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية المتحدة، فإن هذا الرصيد الوطني الذي حمله الرئيس موجابي بالأمس لن يشفع له البتة اليوم، حينما ينصب نفسه حاكما لزيمبابوي مدة ثلاثة عقود تقريبا، ويمدد حكمه بولاية خامسة مشوبة بالتزوير والنصب مفعمة بالعنف والاستبداد.. كما أن رزوح الرئيس موجابي في السجن عام 1964 مدة عشرة أعوام ابان نضالاته ضد النظام العنصري فإن التاريخ في الوقت ذاته لا يصفح عما ارتكبه ويرتكبه اليوم الرئيس الزيمبابوي من أخطاء فادحة بحق المعارضة ومصادرة حقوقها وانتهاك شرعيتها وملاحقة زعيمها ومن ثم إبعادها عن المشاركة في الحكم بل اتهامها بالعمالة للغرب، كذريعة لدكتاتوريته واستبداده بحسب مبررات الحكام الدكتاتوريين، التسويفية والديماغوجية… لعل في ضوء هذه الحقائق المريرة، فإن الرئيس روبرت موجابي باع تاريخه من أجل كرسي الحكم الذي اعتاده واستهواه، وتشبث به بقدر ما نسف تضحياته الوطنية من أجل أهوائه الشخصية ومصالحه السياسية هو ومصالح حزبه الحاكم.. ليس هذا فحسب ولكن سعي الرئيس موجابي بحثيث خطواته في ضرب تاريخه وتضحياته عرض الحائط لا يهمه الإساءة لسمعته وأفكاره ومبادئه، حينما سد أذنيه بالطين والعجين لتفادي السماع وتجنب الإنصات لتلك الاحتجاجات والانتقادات سواء الصادرة عن الأمم المتحدة وأمينها العام (بان كي مون) الذي أكد بقوله «إن الانتخابات الرئاسية في زيمبابوي التي جددت ولاية الرئيس موجابي غير شرعية بسبب أعمال العنف التي تخللت الاقتراع«.. أم مناشدات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا الحاكم للرئيس موجابي «بتأجيل انتخابات الإعادة بعد انسحاب زعيم المعارضة تسفا نجيراي من جولة الإعادة«.. أم احتجاج واستياء المعارضة حركة التغيير الديمقراطي بقول زعيمها «هو يوم إهانة وعار مناشدا أبناء زيمبابوي مقاطعة الانتخابات لأن موجابي يتجاهل مشاعر الزيمبابويين«.. في نهاية المطاف نستطيع القول إن الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي الذي حرف عملية الانتخابات الرئاسية بالاحتيال والتزوير من أجل الاستئثار بالكرسي والسلطة بقدر تهميش وإقصاء المعارضة وعدم الاعتراف بفوز زعيمها تسفا نجيراي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.. فإن الرئيس روبرت موجابي قد سلك السياسة الدكتاتورية على غرار سياسات الطغاة من الرؤساء الأفارقة أمثال جعفر نميري وموبوتو سيسكو وعيدي أمين وسياد بري.. بل يظل الرئيس الزيمبابوي موجابي أسوأ من أقرانه الدكتاتوريين.. لكون هؤلاء الطغاة لن يثيروا الاستغراب أو التساؤل لأنهم كشفوا عن دكتاتوريتهم أصلا من بدايات حياتهم السياسية وأحكامهم وسلطاتهم الرسمية الجاثمة على صدور شعوبهم والتنكيل بمعارضيهم.. ولكن الرئيس الزيمبابوي موجابي بعد أن كان مناضلا وطنيا ثوريا، فإنه سقط من أعلى السلم النضالي إلى أسفل السلم الدكتاتوري.. ولذلك فإنه قد يثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام.. من هذا المنطلق يمكن القول إن تاريخ المناضلين مهما اتسم بالصلابة والصمود في فترة تاريخية، ولم يستطع في الوقت ذاته الاستمرارية والديمومة في فترات تاريخية لاحقة بل يتحول إلى النقيض من ذلك.. فإن هذا التاريخ لن يشفع لصاحبه في أن يدرج اسمه في قائمة المناضلين الحقيقيين، بقدر ما يدرج في قائمة الدكتاتوريين والطغاة والاستبداديين.. حتى إن كان صاحب هذا التاريخ الوطني عميدا لسجناء العالم المناضل (نيلسون مانديلا) الذي حافظ على سمعته النضالية وصان تضحياته المبدئية فوجد المكانة العظيمة في ضمير شعبه، بل ضمائر شعوب العالم قاطبة، مثلما سجلت إنجازاته وعطاءاته في صفحات التاريخ، وبحسب ما دون اسمه في سجل الخالدين.. فهل يقتدي الكثير من دعاة الوطنية وعلى رأسهم الرئيس الزيمباوبي روبرت موجابي بحكمة المناضل نيلسون مانديلا (نزاهة مواقفه المبدئية وصلابة نضالاته الوطنية وديمقراطية أفكاره الثورية وتسامح روحه الإنسانية وواقعية أنماطه الحياتية، وارتقاء قيمه الأخلاقية والتزاماته الفكرية) التي هي صفات ومميزات إنسانية بالغة الرقي والسمو تجلى بها المناضل نيلسون مانديلا طوال عمره المديد؟ هل يدرك الرئيس الزيمبابوي موجابي هذه الحقائق التاريخية والوقائع المجتمعية والجماهيرية التي هي واضحة وضوح الشمس التي لا يحجبها الغربال؟
صحيفة اخبار الخليج
25 يوليو 2008