كل شيء أبيض في المستشفى.. لا، ربما ناصع البياض إن شئت، لأنه ببساطة هكذا: الحيطان مكسوة بالبياض، وكذلك الأسرة، أغطيتها، شرا شفها، ألحفتها، مخداتها، وما بها، ومَنْ عليها، وما في جوفِها مزهو بالبياض.
القطن المستعمل لتضميد جراح المرضى أبيض، وكذا اللفافات على الرأس والرقبة والأيدي والأرجل وأي مكان في جسم الإنسان هي الأخرى بيضاء.. ‘الجبيرة’ لتجبير الكسور، أيضاً بيضاء، ثم إن الأطباء يجولون على غرف وأجنحة المستشفى وهم يرتدون ‘روب ‘ أبيض، وقفازات بيضاء، والمفارقة، عندما يموت إنسان ما يلف جثمانه بقطعة قماش بيضاء اللون تسمى ‘كفن’، تلك القطعة التي ‘يتبارك’ أصحابها، ويكونون محظوظين كلما احتفظ بها حاج زار بيت الله الحرام في مكة المكرمة، أو ذهب للعمرة في آخر أيام حياته لتلف به قبل دفنه ورحيله إلى مثواه الأخير.
تُرى، لماذا بات اللون الأبيض مخيفاً، مرعباً في تناقض مع شموخه الجميل؟.. قطعة قماش راية الاستسلام أيضاً بيضاء، حليب الأم أبيض، وكأس الحليب الذي يقدم للمرضى كل صباح مساء، هو الآخر أبيض، وحليب الناقة، أبيض ،وهو كما يصفونه مفيد جداً: ‘يقوي البصر، ويصقل العظام، ويقي المعدة من الأمراض’، هكذا يقول صاحب الوهم ‘عجيل’، الذي ‘يشرب حليب الناقة من خف الجمل كما قرأته في إحدى قصص كاتب عراقي.
نزلاء المستشفى، حين يتأملون ما يحيطهم من بياض يصابون برهبة مزدوجة: لون مريح في الشكل، مربك في مضامينه. وما أن تطأ قدماك عتبات المشفى، لابد أن تصاب بالهواجس.. هناك أطباء، ممرضون وممرضات، قلوبهم ‘بيضاء’ يسألونك عن العِلة ويدونونها على أوراق بيضاء قبل العلاج.. يسألون أسئلة تبدأ بـ ‘حجي’ أو ‘يبه’ إذا كان المريض كبيراً في السن، وبـ’يا ولدي’ إذا كان المعلول شاباً، وهنا ينتظرون أجوبة عفوية من الموجوع ومكامن ألمه في محيط البياض، أما ذو ‘الروب الأبيض’ (الطبيب) الذي يشخص المرض قبل العلاج يكتب على أوراق بيضاء في ملف شخصي. ويبدو أن الورقة البيضاء التي يدوّن الطبيب ملاحظاته في تقاريره الطبية هي أيضاً مخيفة، تماماً كما هي مخيفة عند الكتّاب الصحافيين الجالسين على مكاتبهم وأمامهم ورقة بيضاء تحتاج إلى عصارة مخ لتسويدها بأمانة ضمير، أو بكلمات مفيدة لا تتجه إلى البحر، بل تستقر في أعمق أعماق القراء لبناء الحقيقة.
يبدو، أن الفنانين يواجهون رهبة اللون الأبيض أيضاً، خاصة عندما يعدّون لمشروع فني، للوحة فنية، حيث في العادة مادتها الخام وخلفيتها بيضاء لقماش أبيض جاهز للرسم بانتظار ضربات الفرشاة واللّون قوس قزح، و’في قوس قزح كل الألوان’، ليتشكل إبداعا حقيقياً لشيء مختلف غير متكرر، ألم يقولوا: إن ‘الفن هو إبداع وليس تكراراً’ حتى تغدو اللوحة ساحرة للعيون وللعقول معاً!.
في جناح رقم 23 بمستشفى السلمانية، غرفة عامة رقمها 14 ينام فيها ستة أشخاص، اثنين منهم آسيويان، وأربعة بحرينيون جمعتهم مصائب مختلفة: حوادث سيارات، عمليات جراحية، وآلام في الركب والأرجل والأيدي والمفاصل والظهر، وأيضاً تهشم في الصدر. وكان بيننا شاب وسيم في العشرينات من عمره، اسمه يوسف، ذو شعر فاحم ولحية خفيفة، وفي مصادفة عمياء كان يرتدي ‘تي شيرت’ أبيض و’بنطال رياضي’ رمادي اللون، وكان يؤدي فرائضه الخمس بانتظام فيصلي جالساً على سريره بمساعدة ارتفاع طاولة طعامه في المستشفى التي تعلو على السرير، وبعد أن ينتهي من صلاته تحت رقابة شرطيين بلباس مدني ينظران إليه من نافذة الغرفة أحياناً، أو من بابها المفتوح، وأحياناً أخرى يجلسون بجنب سريره في مراقبة أشد، وكأنه ‘مسجل خطِر’، يبدأ بقراءة آيات من الذكر الحكيم من مصحف بحجم كف اليد، ثم يفتح كتاب يحتوي على مجموعة أدعية وروحانيات يكثر فيها الدعاء بخشوع، وما أن يفرغ من هذا التقليد اليومي ‘بعد كل صلاة ويغسل همومه بالقراءة’، تراه يطلق النكات ويخفف على المرضى أوجاعهم بأحاديث تبدد الجو الكئيب إلى مرح وقهقهات.
دخل هذا الشاب المستشفى، أو أدخلوه، ربما لحفظ ماء الوجه، جراء ما تعرض له من محاولات انتزاع اعتراف (…) وذلك في الخامس عشر من يونيو/ حزيران الماضي، وكان يتكئ على عكازين ويد أخرى مكسورة، وأضلاع على الجهة اليسرى من الصدر منتفخة، وكان قد واجه القضاء فيما بعد، في لحظات كامل حريته المفترضة في الثامن من يوليو/ تموز.. جاء ذلك اليوم وقال ما قاله للقاضي وتم تأجيل محاكمته وآخرين إلى شهر سبتمبر/أيلول القادم. فلننتظر لنرى.
عندما أنهيت أوراق إدخال المرضى بجهود لا بد أن يشكر عليها الدكتور علي جعفر العرادي بعد طول مكابرة للحصول على سرير، عبرت جناح 23 قاصداً غرفة رقم ، 14 فوجدت على بابها كرسيين بأربع عيون، وأربع آذان، وخشمين شمامين، مهمتها، على ما يبدو، مراقبة الداخلين والخارجين بعيون ‘فضولية’ إلى هذه الغرفة الناصعة البياض، والمقصود فيها بالطبع، يوسف.
كما هي العادة عند التعارف الأول، تلقي التحية على الموجودين مصحوبة بتمنيات الشفاء العاجل لهم جميعاً، فيرد الجمع بتحية أجمل منها مقرونة بدوام المعرفة وطول العمر، وطبعاً الصحة، إلا أن يوسف كان مختلفاً في تحيته إذ قال: أهلاً بالصحافة، أهلاً بـ ‘الوقت’ وموضوعيتها.. ثم سأل: عسى ما شر؟
بطبيعة الحال أدخل إلى قلبي السرور والزهو في آن، وذلك لمرتين: الأولى، لأنه يعرفني بالاسم والمهنة، والثانية لإطرائه على الصحيفة التي أعمل فيها.. مما حفزني الفضول الصحافي أن أسأله عن يده المجبرة باللّون الأبيض والعكازين المستقرين تحت سريره؟ وهنا تذكرت ‘نصاً مقدساً’ عند طائفة الصابئة المندائية في ‘كتابهم المقدس’ ‘كنزا ربا’ كما يصفونه يقول: ‘إن عكازتكم يوم الحساب أعمالكم التي عليها تتوكأ ون، فانظروا إلى ماذا تستندون؟’.
بعد صمت امتد لأكثر من دقيقة، كانت عيونه تراقب الرقيبين، وربما بعد أن اطمأن، أشار بإبهامه وكأن في الأمر إنَّ (…) فهمت إشاراته الشاردة، لكنه زاد من فضولي الصحافي لمعرفة المزيد، حول ما يجري لهم هناك. وهنا، ونحن نتجاذب أطراف الحديث بهدوء، حاولت أن استعين بكلمات تعلمتها من عبد الرحمن منيف في رائعته ‘الأشجار واغتيال مرزوق’، فقط لأقويه. كدت أقول له: ‘لا تضعف، أتسمع ما أقول لك؟ لا تضعف[1]’. لكن غصة كبيرة وقفت في بلعومي ومنعتني عن الكلام.. تراجعت متسائلاً: ماذا لو كنت مكانه؟ ألم أضعف لتخليص نفسي من العذاب وأوقع على ما يريدون، وأقر بجرم لم أرتكبه، رغم أن المعادلة تقول: ‘افعل ما تريد، ثم فتش عن الأسباب والمبررات’.
سرح خيالي في التفكير والتأمل.. مرّ طيف لمقولة شهيرة قالها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي تلامس الواقع مفادها: ‘القديم لا زال قديماً، والجديد ينتظر الولادة’.
[1] عبد الرحمن منيف، ‘الأشجار واغتيال مرزوق’، ص13
– من أسرة تحرير ‘الوقت’
الوقت 22 يوليو 2008