سهى بشارة في يوم تحرير جديد تخبرنا عن »المعنى«: معنى المقاومة والأسر والأرض ومن يسكنونها
سحر مندور – السفير الأربعاء 16 تموز 2008
ابنتها تالة (٤ أشهر) على يدها، وابنة أختها ندى تغزل من حولها، وهي تتحدث عن المقاومة وعن الشيوعية وعن علاقة المواطن بوطنه. سهى بشارة في زيارة إلى بيروت، هي المقيمة وزوجها في سويسرا لعدم توفّر وظيفة لأي منهما هنا.
المقاومة التي تربّى الشباب على اسمها ونقاء صورتها، تعود لتخبر، في عيد تحرير جديد، عن المعنى. معنى أن تطلق النار وتؤسر وتستشهد من أجل أرض من تراب، وحياة مَن يسكنونها. معنى أن يحرص الحريص على إعادتك إلى بيتك، حراً أو شهيداً، كحدث اليوم في لبنان.
لا تتوقف سهى عند حدود الماضي، بل تقرأ في التتمات: من »حزب الله« وخطاب سيّده إلى »الحزب الشيوعي« بمسؤولية أمينه العام الرفيق خالد حدادة، ومن إطلاق النار إلى العمل للضغط على البرلمانات الأوروبية، ومن فتاة هي رمز وصورة إلى سيدة تكمل الطريق بهدوء.
تخبر عن الكلمة الوحيدة التي تفوه بها أنطوان لحد بعد تلقيه الرصاصة الأولى قبل أن توافيه بالثانية، وتخبر عن ندمها على رومانسية أبقت في جعبتها خمس طلقات لم ترَ النار. تصف صورة رسمتها لنفسها في أعين جيش لحد كي »تخش« في صفوفه، فتتحول الى راقصة ترفع الكأس وتضحك، وفي يدها خنجر.
ترفض »المثاليات«، ولا تجدها إلا في اكتمال الشهادة، ثم تُرضع ابنتها وتلاعبها، بينما تثور ضد نظريات »حب الحياة« و»حب الموت«.
تقول إنها تعشق الحياة، ولأجلها قاومت. تبسّط المسألة، تخطفها من حواري الطوائف والمصالح، وتروي القصة بكلام مفهوم وواضح.
هي من جيل وفرت له »جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية« مساحة لبنانية للمقاومة. قبل إعلان الجبهة، كانت المقاومة تتم عن طريق الفصائل الفلسطينية، كأنما لبنان لم يجتح، »كأنو مش إنت اللي تهجّرت«.
كانت في الحادية والعشرين من عمرها عندما ذهبت إلى الجنوب وفرضت على »الجبهة« تكليفها بعملية. في صندوق السيارة التي أقلّتها بعد تنفيذ العملية من مركز التحقيق التابع لجيش لحد إلى مركز الاستجواب الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، غنّت لنفسها أغنية اسمها »مشايتي«. وهي اليوم تنصت لأصدقائها المنقسمين بين معسكرين كي لا تخسر رفقتهم.
صورة الفتاة بالأحمر، يُعاد رسمها في يوم تحرير أسرى وشهداء متعددي الألوان والانتماءات. العلم الذي يلوح إلى جانب العلم اللبناني اليوم، أصفر اللون، ولقد تعددت ألوانه على مر الصراع، وستتعدد مع استمراره، طالما أن للأرض أبناء أحبوها كونها تحتضن حياتهم.
سهى بشارة، ضيفة عزيزة على »السفير«، في يوم تحرير جديد.
عودة الأسرى
ـ كيف تنظرين إلى عملية التبادل اليوم؟
[ عملية عظيمة. تصنع لحظات يجب أن تكون هامة جداً في تاريخ اللبنانيين. فرضت أهميتها منذ عملية الأسر، ولولا عملية الأسر لما كان تحرير الأسرى ممكناً. ومن الهام جداً أن تشمل تلك الصفقة أجساد شهداء سقطوا في السبعينيات، مثل دلال المغربي وغيرها، لأن الشعوب التي لا تقدّر شهداءها ولا تطالب بجثثهم، لا تقدّر أحياءها. ومن لا يكرّم أسراه وشهداءه، يكون عاجزاً عن أن يكرّم نفسه بوطنه.
ـ وسمير القنطار؟
[ كُتب على سمير أن يكون عنواناً شديد الأهمية، حمل الشعلة لثلاثين سنة وتحوّل إلى عنوان في الداخل الفلسطيني من زمان. وأتمنى أن يكون لما يلاقيه من تكريم واحترام في فلسطين صدىً مماثلاً في لبنان، وليس مختزلاً أو مجتزأ.
ـ أنت، مَن أخرجك من الأسر؟ المقاومة أو الدبلوماسية؟
[ المقاومة! السبب الأول في خروج أي معتقل هو استمرار المقاومة.
شيوعية
ـ ما زلت شيوعية.
[ أشعر بأن الشيوعية هي مبدأ فكري لا يتغيّر مع الزمن: إما أن تقول بالمساواة والعدالة الاجتماعية أو لا تقتنع بهذه المبادئ. أنا، يوماً بعد يوم، أصبح أكثر شيوعية… يمكن قبل ما كنت هالقد شيوعية!
ـ الشيوعيون إثنان في البلد، حالياً. أنت؟
[ هنا أصبحنا في مستوى آخر من الحديث. لا يوجد إثنان شيوعيان، إما أن تكون شيوعياً أو لا تكون شيوعياً. ولكي نكون صريحين، أنا أعتبر أن موقف الحزب الشيوعي مع مسؤولية الأمين العام حالياً خالد حدادة هو موقف متميز جداً ، تاريخي. أخذ الحزب الشيوعي ثلاثة مواقف تاريخية تكتب في تاريخه: فرج الله الحلو والحزب الشيوعي اللبناني، ثم إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، واليوم، عدم السير خلف الملايين. ليس سهلاً أن تنصرف للقراءة السياسية في ظل انجراف عاطفي وطائفي وشحن، وملايين!
ـ كيف دخلت إلى الحزب الشيوعي؟
[ بيتنا كان خالياً من السياسة بأمر من أمي، لكن هناك ميول شيوعية يمكن القول إنها في الدم. فأبي كان بالنسبة إلي مثالاً وكنت أقرأ الشيوعية من خلال أداء أبي. لم أقرأ ماركس ولينين وإنجلز لأعرف عن الشيوعية. بدأت في إطار »اتحاد الشباب الديموقراطي« عام ،١٩٧٩ وأنا من مواليد عام ،١٩٦٧ أي أني كنت في الثانية عشرة من عمري. وبقيت في الاتحاد ولم أنتقل إلى الحزب.
ـ لماذا؟
[ الحرب الأهلية. كنت أرفض تدخلنا فيها. على المستوى الداخلي، يجب أن تكون المعارك سياسية. إذا كان في مكان لازم ينحمل فيه سلاح، فهو في »الجبهة« ضد إسرائيل. »الجبهة« هي المكان الوحيد الذي يحميني من أن أصبح فلسطين ثانية.
»حزب الله«
ـ ومقاومة »حزب الله«؟
[ هو يتمتع بقاعدة شعبية طيبة جداً وتؤمن بالقضية والعطاء وجنوبها ووطنها والتحرير. ولا يفاجئني أن يتمتع بهذا الكم لأنه كان بدوره ملتزماً أمام هذه القاعدة.
ـ وداخلياً، هل يخرج عن المألوف اللبناني؟
[ هو الوحيد السياسي! حالياً، لو أردت أن أسمع خطاباً سياسياً، فلمن أستمع؟ لا يوجد سياسيون في البلد. أما السيد حسن فأسمع خطبه وأقرأ فيها سياسة على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي، رغم المآخذ الكثيرة.
ـ ما هي المآخذ؟
[ أولاً، لا يوجد حزب سياسي قادر على بناء سياسة داخلية واختزالها بالمقاومة. كأنك موجود من خلال العدو. سؤال: إذا راحت إسرائيل، منفكر ساعتها نشتغل بالاقتصاد، ونصوّت على قانون؟ يجب أن يعلن سياسة واضحة لإخراج البلد من الأزمة الاقتصادية، وذلك كي يتكامل. ثانياً، هناك شرخ بين القيادة والقاعدة. عندما يتحدثون عن استحالة الحرب الطائفية، هذا صحيح طبعاً على مستوى القيادة لأنها اتخذت هذا القرار على المستوى العقائدي وتقرأ الحرب الطائفية كخدمة للمصالح الأميركية. أما القاعدة فمنذ مقتل الإمام الحسين تمت تربيتها على أساس »مين قتلني«. أخي اسمه عمر وكلنا نعاني لأن اسمه عمر منذ ولادته. فكيف إذا دخلت في المعادلة أحزاب وشحن؟ ستعود التربية و»بتفلت الفالوتة«.
ـ أين يقع ما يسمّى بـ»اجتياح بيروت« في هذه المعادلة؟
[ أولاً، أرفض تسمية »اجتياح«، لا يجوز أن نستخدم التعابير ذاتها في المواقف المختلفة. يمكن للمرء أن يكون ضد أو مع أو بين البينين، لكن لا يجوز أن نشبّه هذا الصراع الداخلي بالاجتياح، وبيصير السيد حسن متل شارون، وبتصير خبيصة! أنا أجد أن ما حدث، إن كان مقصوداً أو غير مقصود، حال دون انفجار أمني على شكل فوضى. كان هناك شحن، مستواه يرتفع، ولبنان مليء بالمتحمسين، بيبطّل حدن يمون عليهم. ما فعله »حزب الله« كان معركة مدروسة من قبل طرف كمش الطرف الثاني بالنص، وما كان في مجال نروح ع فوضى، وأعطى مجال ولو لفترة زمنية. هذه هي أهميتها. غير ذلك، لا أعتبر أنها تحقق أي مكاسب على مستوى الحلم الذي نحلم به: دولة ديموقراطية تؤمّن العدالة الاجتماعية.
جورج حاوي
ـ هناك أسطورة تربطك باسم جورج حاوي…
[ لم أتعرّف بشكل شخصي على أبي أنيس. هناك تقليد يملي اللقاء بالأمين العام قبل تنفيذ عملية، لكني أجد هذا النوع من اللقاءات تضييعاً للوقت، لن يزيدني عزماً. أنا رأيته في جنازة الشهيدة لولا عبود، اكتفيت بالوقوف بعيداً وسماعه ورؤية الدموع في عينيه. هناك أشياء عميقة جداً، لكن يمكن نحن معودين إنو نبوس إيد البابا. أنا ما كنت هيك. بالنسبة إلي، هو الحاوي في كل مكان، قيادي ومفكر سياسي ومحلل، يستمع المرء إليه، حتى ولو لم يقنعه في بعض المواقف…
ـ أي مواقف مثلاً؟
[ قال: أنا جرّبت السياسة ولم أنجح، فلأجرّب في التجارة، قد أنجح. كأن هناك مكانين يمكن التنقّل بينهما، أنا لا أجد مكانين. فأنت عندما بنيت حزباً، رصدت له ميزانية، وكنا نمتلك مؤسسات وشركات، وهو يعرف ذلك طبعاً. نقطة ثانية أختلف معه عليها، كانت بعد استشهاد الحريري، عندما قال إنه من الطبيعي أن يكون خالد حدادة مع المعارضة. اعتبر الحزب بلا موقف، وأنا أجد موقف الحزب الشيوعي تاريخي، وضعته في مكانة موقف إطلاق الجبهة! فعندما لا يعرف الحزب إلى أين يأخذ جمهوره، لا يجب أن ينزل به إلى الشارع.
ـ كيف دخلت إلى »الجبهة«؟
[ منذ ،٨٢ وأنا أحاول الالتحاق بالجبهة. تحدّثت مع مسؤولنا علي، وكنت نشيطة في الاتحاد، مسؤولة الخلية في مدرسة فخر الدين، فرفض طلبي وقال لي إن الحزب بحاجة أيضاً إلى العمل التعبوي. لكني كنت أجد مطرحي في الجبهة. وصرت أشعر بعقدة ذنب تجاه كل شهيد. بقيت أحاول الانتساب من عام ١٩٨٢ حتى عام ،١٩٨٦ حتى أني حاولت عبر كل الأحزاب الأخرى ولم أنجح. إلى أن انطلقت انتفاضة الحجارة في فلسطين، والاحتلال لا يزال في أرضنا، فقررت أن أبادر إلى الذهاب إلى الجنوب وأنتظر تكليفاً بعملية. بلّغت الشخص الذي رفض إرسالي إلى الجبهة بأني »طالعة«، فربطني بشخص هناك. وتوقفت عن المشاركة بكافة التظاهرات، وقطعت علاقاتي بالاتحاد، تحضيراً للانتقال إلى العمل السري.
ـ وأهلك؟
[ أرسلت أحدهم ليوصل كذبة تفيد بأني »حاطة عيني على واحد بالجنوب«، حب وما حب… لاقى ذلك قبولاً عند أمي، وأبي لا يتدخل.
»حب الحياة«
ـ لماذا الخيار العسكري؟
[ الاحتلال كفيل بأن يخرّج أعداداً هائلة من المقاومين. ونحن، كمقاومة عسكرية، لا نزال أقل ضراوة من أهل الجنوب. فهم على تماس يومي مع الاحتلال، وأبسط يومياتهم مقاومة له: يخرجون إلى الدخان عند الرابعة فجراً، فطرقهم الاحتلال وجبرهم على الخروج عند الحادية عشرة ظهراً! كلما فتح عينيه، يقول: »لا للعدو«، »ما بدي إتعامل معك«!
ـ عزمك على مواجهة الموت في مقابل نظريات »حب الموت« و»حب الحياة«، ماذا تقولين؟
[ ما هذه النظريات؟! لا يوجد إنسان يخرج في عملية، حتى ولو كانت استشهادية، في الحزب الشيوعي أو في »حزب الله«، ويكون الموت هو هدفه. إن هدفه هو التحرير. لم يبحث عن عدو يزرعه أمامه كي يموت ويدخل الجنة. بمقاومة وبلا مقاومة، يريد أن يدخل إلى الجنة. لكن العدو أتى إلى أرضي. وعندما تبلغين مرحلة القناعة التامة بوجوب مقاومة الحياة التي يفرضها عليك الاحتلال، ترضين الاستعداد للموت من أجل هذه القضية، انتصاراً للحرية والفرح والعرس.
طلقتان و١٠ وصايا
ـ في الجنوب. بدأت مباشرة العمل على تحضير عملية اغتيال لحد؟
[ لا، لا… بدأت أولاً بالاستطلاع، أي جمع المعلومات: أين مراكز الإسرائيليين، كيف هي، خط أبيض على معبر، … وفي عام ،٨٨ حاولت أن أدرّس الرياضة في نادي مرجعيون كي أنخرط في صفوف الأمن. فجبت شريط جين فوندا، حفظته بالليل، وتاني يوم عملت امتحان عند زوجة لحد، وقبلوني مدربة رياضة نسائية بالنادي، وبنيت العلاقة.
ـ ما اسم زوجته؟
[ مينيرفا.
ـ كيف كانت المواجهة؟
[ عندما دخلت بيته، أصبحت أمام الأمر الواقع. انتهت مراحل التفكير والتخطيط بيني وبين نفسي. الآن، بات علي أن أطلق النار على رجل. فاصطدمت بالتربية على الوصايا العشر: لا تقتل… بتلاقيهم رجعوا طلعوا. إنو كيف بدي إقتله هو وعم ياكل، مثلاً؟! لأ، ما لازم يكون عم ياكل، ولا يشرب، ولا بارم ضهره…
ـ وود التعامل اليومي مع الزوجة؟
[ أنا ما عندي مشكلة. كنت أمتلك طاقة هائلة على الفصل بين الأمور. أجدها سيدة لذيذة في مواقف، ومتواضعة، وبالسياسة لا ترى شيئاً. لم يؤثر ذلك علي. فلحد رمز عمالة ويجب أن يواجه ضربة سياسية. يموت، لا يموت، لم تفرق معي.
ـ لم تتضايقي عندما عرفتي أنه لم يمت؟
[ لا، آخر همّي.
ـ ولا شعرت بالتقصير نتيجة قلة التدريب العسكري؟
[ لا، أنا أصبته في القلب. لكن، يجب ألا يكون المرء فيلسوفاً في ظل هذه الظروف. وأنا كنت مصرّة مثلاً على أن أطلق طلقتين: طلقة تحية لأطفال الحجارة، وطلقة رسالة للشعب اللبناني كي يوفّر جميع طلقاته من أجل توجيهها إلى العدو. لا أندم على هذه المثالية، لأنها جزء من المقاومة والمقاومة لها أخلاقياتها. لكن، الواحد ما لازم يزيدها. أنا بعتقد إني زدتها برومانسية المقاومة.
ـ أين الأثر السلبي لهذه الرومانسية في العملية؟
[ بقي معي ٥ طلقات! ما عملنا فيهن شي! (تضحك). وأنا في وسط أكبر ثكنة للإسرائيليين، طالعة إتفلسف على حالي؟ كما أني كنت في حالة سباق معهم!
»الرقّاصة«
ـ لماذا يلاحقونك؟
[ غير الشكوك الأمنية، كانت هناك محاولة لتنظيمي: أنا »مسيحية«، من عائلة معروفة بشيوعيتها، وأسكن في بيروت الغربية. والحزب وقتها كان الجزء الأساسي من المقاومة، وبالتالي الهدف الأساسي للإسرائيليين. لكن، كانت هناك خلافات بين جهازي الأمن: كيف يجند أمن حاصبيا مسيحية قبل أمن مرجعيون؟! فاستفدت منها. وأيضاً، كان علي أن أخلص من بيروت: »حركة أمل« تريد توقيفي، وابن عمي الشيوعي ردّوه عني…
ـ لماذا؟
[ لأني، في فترة الاستطلاع، رقصت مع ضابط إسرائيلي في حاصبيا، ورموا علي الدولارات (تضحك). طلعت رقّاصة أنا.
ـ كنت »مولّعتيها« بالجنوب!
[ (تضحك) كوّنت صورة عني بالمنطقة أني بحب الشرب والرقص. لم أخفِ أن في العائلة شهداء، وشيوعيون، لكن الحياة حلوة والرقص حلو، والشرب حلو. أجواء المنطقة فوق، إجمالاً، هيك. وأنا خشّيت فيهم من خلال واحد بيقربنا، كان المسؤول العسكري للحد في الضيعة. ومن خلاله، أطليت على الإسرائيليين وأمن حاصبيا.
ـ كم من الوقت بقيت في الجنوب قبل تنفيذ العملية؟
[ من الاستطلاع حتى النادي حتى بيته ثم السلاح والتدريب والتخطيط والتنفيذ، لم تأخذ أكثر من ستة أشهر: من حزيران لتشرين.
»يا بنت الكلب«
ـ كيف نفّذتها؟
[ دخلت إلى البيت، وكان فيه السيدة التي تخدم، الأولاد، أنطوان لحد، زوجته، وسيزار صقر وزوجته، إسبانية أو إيطالية. جلست إلى الكنبة، وهو جلس إلى جانبي بشكل زاوية، وأمامنا التلفزيون.
ـ أين المسدس؟
[ في الشنطة، وكنت قد وضعتها إلى شمالي، بيني وبينه. وأنا جالسة، فتحت الشنطة، وضعت المفاتيح لزوجته على الطاولة، وبدلاً من أن أخرج الشرائط المصورة، أخرجت المسدس، وأطلقت أول طلقة. انتظرت للحظة، لأني أعرف ما سيجري: كون الرصاص سام، فمن المفروض خلال ثانية أن يقف كرد فعل ثم يقع. عندما وقف، أطلقت الطلقة الثانية. أصابت الأولى قلبه، والثانية كتفه.
ـ هل فاجأك برد فعل غير متوقع؟
[ بعد أول رصاصة، قال: »يا بنت الكلب«. لحّق يقول هول الكلمتين، ثم أطلقت الرصاصة الثانية ووقع. فدبّ الولي، وجرّب سيزار صقر يثبتني. بالفرنسية، سألني: ليش قتلتيه؟ فطلعت قريحتي بالفرنسي: هو قتلنا قبل ما نحن نقتله. صاح: مين باعتك؟ ساعتها قلت له: سهى بشارة، جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
ـ لم يقتلوك.
[ جاء عسكري وعبطني، وراح يصيح: ما تقوصوا، وأخرجني إلى مركز الحرس، وهون قال الكريم خود. مين معك؟ ما حدا معي. أنا لست مفيدة، لأن علاقاتي لم تكن بالجنوب. والأسماء التي أعرفها في الخارج ألقاب. لم يستفيدوا مني بأي شيء.
ـ أنت أقرب إلى المقاومة المثالية إذاً!
[ لا، مش مثالية… ما في مثالية. المثالية بالشهادة. بس يمكن أنا أقل إنسان دخل المعتقل واستفادوا منه بالمعلومات. خاصة أنهم سألوا في العموميات: مثلاً، إذا حضّرت لخطف ضابط إسرائيلي كنت على علاقة به، فقلت لا، وانتهى.
ـ »كنت على علاقة به«؟
[ كنت مصاحبته… وكان من الوارد أن نستدرجه إلى الشرقية ونخطفه.
ـ مصاحبة واحد إسرائيلي؟
[ (تضحك) إيه إيه، عربي إسرائيلي، إسمه سعيد.
ـ نقلوكِ إلى مركز لحد للاستجواب، ثم ماذا؟
[ بعد الاستجواب، جاء الإسرائيليون. كربجوني بإيديّ وإجريّ، ونقلوني إلى التحقيق الإسرائيلي في صندوق السيارة.
أغنية »مشايتي«
ـ في مقابلة سابقة، قلت إنك غنيتي أغنية في صندوق السيارة. ما هي؟
[ آه… »مشايتي«. بالأمس تذكرتها مع مجموعة رفقة غير ملتزمين حزبياً. شاب صديقنا إسمه أياد الباشا ألّفها ولحّنها عندما أمرته شقيقته مرة بأن يرفع قدميه لكي تمسح الأرض وحملت مشايته. تقول: »إنت لأ هي لأ هي، شلّحتوني مشايتي مشايتي، إنت يا مشايتي يا حنونة، أخدوكِ مني آه يا عيوني، ومشيت حافية من هون للبيت، من دون مشاية، وشكّتني شوكة بإجري، أخ يا مشايتي يا حنونة«.
ـ لماذا تذكّرتها؟
[ تذكرتها وقتها لأنهم شلّحوني من قدمي، وشكّتني شوكة عندما أخرجوني.
ـ ما الفارق بين التحقيق الإسرائيلي وتحقيق جيش لحد؟
[ الإسرائيليون يعتمدون على الموضوع النفسي، الصراخ والتهديد. جماعة لحد ما عندن مشكلة، بيحرقوا، بيكهربوا، الخيام ما في حدود. عندن »كارت أبيض«.
»نساء« في الأسر
ـ ما هو أبشع ما شهدته في المعتقل؟
[ اللقاء مع والدتي في المعتقل، وكنا أنا وهي مكيّسين (كيس في الرأس) ومكربجين.. وأصوات المعتقلين تحت التعذيب، وحدن معك مريض عم يستفرغ دم… أو، لما معتقلة، متل زينب حلاوة، أخدولها إبنها من إيديها… أو وقت اعتقلوا سحر زعيتر، كانت بعدها مولّدة جديد، اخدوا ابنها تاني يوم، فاضطرت لسحب الحليب من صدرها ورميه، تسحب الحليب وبراسها الكيس. مشاهد كتير فظيعة. والأمهات المعتقلات، أم حبيب وابتسام وفاطمة وإم محمد، وغيرهن وغيرهن… اعتقال الأمهات مخيف!
ـ لماذا اعتقالهن؟
[ إما للضغط على الولد أو الزوج أو للتخويف.
ـ تراودك كوابيس من تلك المرحلة؟
[ لا.
ـ وكونك إمرأة في الأسر، أي خصوصية المرأة الجسدية…
[ في الأسر، انتبهت إلى أني إمراة وهم لا يريدون أن ينتبهوا لذلك. مثلاً، لا توجد فوط صحية. فطالبنا بتأمين هذه المواد الأساسية، وبقينا سنوات من دونها.
ـ كيف تصرفتن خلال هذه السنوات؟
[ كل يوم أربعاء، كانت عائلات المعتقلات المتواجدة داخل المناطق المحتلة تؤمن ما لا يكفي للجميع، لأن هؤلاء أقلية. ثم هناك المعتقلات اللواتي يملكن المال، وكنّ أقلية أيضاً، وكان من الأجدى أن نشتري بالمال أدوية. فطلبنا منهن أن يبتعن لنا المناشف بدلاً من الفوط المكلفة جداً. فاستبدلناها بالمناشف التي يمكن غسلها وبالملابس الداخلية والحرامات والبلوز، نمزّق المتوفر ونستخدمه.
ـ بقيت معك عادة من المعتقل؟
[ إيه… أحياناً أتكلم مع نفسي. عندما أواجه وضعاً ما أو فكرة ما، أمشي، أمشي، في مسافة ضيقة جداً، أحدث بها نفسي، بصوت منخفض، إلى أن تخرج مني وأحكيها. هيدي جبتها معي من المعتقل، لم أكن كذلك قبله.
ـ كوابيس؟
[ لا.
حاضر الخيام وحاضر سهى
ـ طالبت بالحفاظ على »الخيام« شاهداً على أحداثه. ثم هدّه الإسرائيليون في عدوان تموز ؟
[ على مدى ٢٢ احتلالاً، كان للخيام في كل عرس قرص. هنا قصف الطيران، ومن هنا تهجّرت العائلات، واعتقل أبناؤها وهدّمت بيوتها… إلى أن جاء الإسرائيلي نفسه ودمّره: ما يعني أن المعتقل استمر في كتابة تاريخ معاناة هذا الشعب. من المفروض ألا يمسّ. وللأسف، لقد سبق أن تم تشويه الذاكرة في معتقل أنصار.
ـ هل راودتك عواطف أو أفكار معينة عندما قُصف؟
[ شعر عدد من المعتقلين أن بيتاً من بيوتهم قد هدّم. أما أنا فلم أفكّر إلا بأن الطريقة التي تم فيها تدمير المعتقل تعيد تخزين الذاكرة.
ـ كيف خرجت من الأسر إنساناً سويّاً؟
[ إذا عاش الواحد منا تجربة الاعتقال بصفتها شكلاً من أشكال المقاومة، وعاش بعدها مرحلة ما بعد الاعتقال كشكل من أشكال المقاومة أيضاً، بتكون المسألة محلولة.
ـ هل خضعت لعلاج نفسي بعد تحريرك؟
[ كلا.
ـ حياتك اليوم؟
[ متزوجة من شاب سويسري اسمه إيفان روشا، وأم لفتاتين، تالة الصغيرة ٤ أشهر، وجاد ٥ سنوات. عايشة بجنيف، ونشيطة على مستوى القضية الفلسطينية في جمعية تضع الجمعيات، اسمها »لجنة الطوارئ من أجل فلسطين«. نعمل على مستوى برلماني، على وقف التبادل العسكري مع إسرائيل مثلاً، وعلى الحملات المدنية في داخل فلسطين.
ـ ألم تفكري بالعيش في لبنان؟
[ بلى!
ـ ماذا جرى؟
[ لن نأتي أنا وزوجي لنجلس على الرصيف. لو تمكّنا من تأمين وظيفة لواحد منا هنا، كنا بقينا. لكن لم يتوفر ذلك من جهة، ومن جهة أخرى ترشّح هو عن »حزب الخضر« لمنصب رئيس بلدية في سويسرا وتم انتخابه.
ـ برأيك، كيف يمكن للبناني أن يعمل من هنا لأجل فلسطين؟
[ هونيك، ليسوا بحاجة إلينا بالشكل المباشر. الدعم الأهم بالنسبة إليهم هو أن نحصّن أنفسنا داخلياً أولاً. ثانياً، قضية الحقوق المدنية للفلسطينيين في المخيمات. لم يناضل أحد فعلياً لهذه القضية! مش مقبول فلسطيني ما يقدر يشتغل، وإذا عمّر حجر نهدّه نحن! هذا من دون الدخول في موضوع الجنسية، علماً أنني أؤمن بحق الإنسان بحمل جنسية الأرض التي يولد فيها، نقطة على السطر، فلسطيني أو غير فلسطيني.
ـ هل تنشب الخلافات مع أصدقائك القدامى اليوم على قاعدة الانقسام الحاد؟
[ ليس على مستواي الشخصي لأني مستمعة جيدة ودبلوماسية. كل من الطرفين يثق بأنه المظلوم، وكل من الطرفين موجود ويجب أخذ قراءته لنفسه بعين الاعتبار، والبحث عن أسبابها، بدلاً من إلغاء وجوده وناسه. يجب على واحدنا أن يرى بعينيه الإثنتين.