جاءت صفقة ‘الرضوان’، كما أطلق عليها ‘حزب الله’ اقتداء باسم كباره العسكريين المغتال في دمشق، ‘عماد مغنية’ تتويجاً لمرحلة نهائية من المفاوضات العسيرة والصعبة بين غريمين لا يلتقيان بالمطلق وهما: حزب الله وإسرائيل، ضمن محاولة إغلاق ملف الأسرى اللبنانيين، بل إغلاق ملف الحرب اللبنانية الإسرائيلية برمتها، في حال قبول إسرائيل إرجاع ‘مزارع شبعا’ و’تلال كفر شوبا’ للسيادة اللبنانية.
عاد الأسرى اللبنانيون الخمسة وعلى رأسهم اليساريّ الدرزيّ عميد المعتقلين ‘سمير القنطار’، إضافة إلى رفات نحو 190 شهيداً. كل هذا مقابل رفات جنديين إسرائيليين (ماتوا في فترة الأسر) تسبب أسرهما من قِبَل حزب الله قبيل حرب يوليو/ تموز 2006 التي كلفت لبنان في حدود خمسة مليارات دولار ونصف المليار و1200 قتيل و4400 مصاب اغلبهم بعاهات مستديمة بجانب أن متوسط النمو الاقتصادي قد هبط من 6% المتوقعة (في حال المعافاة) إلى 5 من دون الصفر في المئة (5%)!. لكنها أيضاً كلفت إسرائيل في حدود 9 مليارات دولار وخسائر بشرية أيضاً، الأمر الذي اعتبر في لبنان وفي اغلب الدول العربية والإسلامية انتصاراً ما فوقه انتصار ودرساً في البطولة والفداء أعطتها المقاومة اللبنانية لدولة إسرائيل المتغطرسة.
لا يهم كثيراً الدخول في جدل لا طائل منه حول ما إذا كانت الصفقة هذه بمثابة انتصارٍ للمقاومة اللبنانية ولحزب الله تحديداً وهزيمة لإسرائيل، على أهمية هذا الحدث الكبير، الذي يجسّد الإرادة الوطنية ضد أي اعتداء خارجي وبروز عنصر المقاومة غير النظامية، في صورة مقاومة شعبية أصابت الآلة العسكرية الإسرائيلية بالوهن المعنوي الواضح، على اقل تقدير، في الوقت الذي عجزت فيه الجيوش النظامية العربية جمعاء من إلحاق أية هزيمة تذكر ضد القوات الإسرائيلية منذ تأسيس هذا الكيان العبريّ قبل 60 عاماً. إن ما يهم هنا، بعيدا عن العواطف الجيّاشة ولغة المقدس السائدتين والمرافقتين لكرنفالات الانتصار (من دون أن نقلل من زهونا به)، هو محاولة البحث عن المخفي، الذي قد يكون أعظم، أي الأسباب الحقيقية التي أجبرت إسرائيل المقتدرة للموافقة على صفقة فيها الكثير من الإذلال لها. بمعنى. هل استرجاع رفات جنديين إسرائيليين يستحق كل هذا الوهج والدعاية المجانية لخصم إسرائيل الأساس على الأرض اللبنانية ألا وهو، حزب الله؟
لا يمكن بالطبع النظر لهذا الحدث بمعزل عن الظروف المحلية والإقليمية المحيطة به، حيث الشواهد كثيرة، لعل أهمها المباحثات الجارية بين حماس وإسرائيل للوصول إلى صفقة ما لتبادل الأسرى، والاهم من ذلك المباحثات السرية عن طريق الوسيط التركي بين سوريا وإسرائيل. ولا غرابة أن نسمع غدا عن اتصالات سرية بين إيران وكل من إسرائيل وأميركا. وهو أمر غير مستبعد؛ لأن إيران في عهدي الشاه الملكي ونظام الملالي/الديني الحالي لهما سابقة الاتصالات مع إسرائيل، في أمور عدة، أهمها، شراء الأسلحة.
هل نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الأهداف الغربية والأميركية والإسرائيلية، رغم تبايناتها المصلحية النسبية فيما بينهم، بجانب الليونة الإسرائيلية الواضحة واندفاعه السريع لإتمام صفقة تبدو فيها واضحة استفادة حزب الله منها، تثير أسئلة مريبة حول الهدف الأساس مما قد تمّ؟
باعتقادنا المتواضع أن الصفقة تمت للأسباب المختصرة الآتية:
أولا: إعادة نوعٍ من الصّدقية للنظام الإسرائيلي تجاه الرأي العام الداخلي، وإيجاد توازن وضبط لصراع الأجنحة السياسية والعسكرية الجارية حالياً في المجتمع الإسرائيلي؛ بسبب افتقار النخب السياسية إلى رؤية موحدة واحدة جراء المنافسة الشديدة والخلافات الشخصية بين تلك النخب، في وقت بدا واضحاً انقسام المجتمع الإسرائيلي على نفسه في أمور شتى ومعاناته من صعوبة الشروع في اخذ زمام المبادرة السياسية.
ثانياً: تستدعي الضرورة الماسّة الانتهاء من الملف اللبناني والخلاف اللبناني الإسرائيلي، الأمر الذي يتطلب تحييد حزب الله حتى لا يقوم بدور ذراع إيراني في خاصرة إسرائيل وخصوصاً في حال نشوب صراع عسكري مع إيران فيما يتعلق بالعامل الإقليمي. أما على الصعيد اللبناني، فإن إغلاق ملف الأسرى والأراضي اللبنانية المحتلة بإرجاعها للسيادة اللبنانية سوف ينتفي سبب استمرار حيازة حزب الله لسلاحه. وهذا بالضبط الثمن المقبل لهذه الصّفقة.
ثالثاً: الحاجة السياسية والمعنوية القصوى لحزب الله لإتمام هذه الصفقة وذلك لصقل صورته ورأب الصدع الكبير الذي أصابه جراء غزوته – غير المدروسة – لبيروت والجبل في يومي السابع والثامن من مايو/ أيار الماضي من جهة، ومضاعفة الضغط على الحزب التقدمي الاشتراكي ممثلا بزعيمه ‘وليد جنبلاط’ بمواجهته بالدرزي ‘سمير القنطار’ من جهة أخرى.
رابعاً: استكمالاً للمخطط تجري الآن محاولات تحييد سوريا، ضمن تحييد كل القوى القريبة والمتشابكة مع إسرائيل، حيث نرى بوضوح الاتصالات الإسرائيلية السورية والدور الفرنسي. بجانب الاتصالات والمباحثات مع حماس التي قد تؤدي إلى صفقة أخرى لتبادل الأسرى.. وهي عوامل ضرورية لتذليل صعوبات التعامل مع الملف الإيراني ونظامه الذي أصبح له هيمنة إقليمية وطموح نووي قد يصل إلى امتلاكه للسلاح الفتاك.
بأخذنا النقاط أعلاه في الحسبان، واستحالة معرفتنا التفصيلية لطبيعة السيناريوهات وبدائلها، الموجودة على طاولة اللاعبين الكبار، المتعاملين مع المعضلة الإيرانية في هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة. يبدو أن هناك ثلاثة احتمالات: الاول، هل يصل الغرب وأميركا بالذات ومن ورائهما إسرائيل إلى حل توافقي وصفقة كبرى مع إيران تعطيها شيئا من نفوذ إقليمي وحوافز تشجيعية اقتصادية وهيكلية كبرى، لكن بشرط أن تنضبط هيمنتها في المنطقة؟
الثاني، في حال عدم الوصول إلى اتفاقٍ مرضٍ للطرفين. هل يستمرون في سياسة حصار إيران في كل المجالات والاتجاهات بجانب تشجيع وتحويل المعارضة الإيرانية واحتوائها لتشكيل ضغط شعبي بُغية الإطاحة بالنظام الإيراني؟ الثالث، إذا ما استنفذت السُّبل كلها في محاولة ثنْي إيران عن الاستمرار في برنامجها النووي.. هل سيقومون بضرب إيران وما تفاصيل تلك الخطة؟ وهل سنرى خريفا أو شتاء ساخناً بدل الصيف الساخن المزعوم أو أن الشتاء سيكون زمهريراً ولا يحدث شيء البتة؟ لعله من الأمور المنطقية أن الأميركان والغربيين عموما لا يسكتون ولا يسمحون بوصول إيران لوضع يكون بحوزتها السلاح النووي، ولا يختلف كثيراً من سيكون سيد البيت الأبيض في الانتخابات الأميركية المقبلة. شيءٌ ما غير متوقع، سلماً أو حرباً، سيحدث آجلا أم عاجلا فيما يتعلق بالمعضلة الإيرانية التي تشكل همّاً وهاجساَ للغرب والأميركان خصوصاً.. والأيام كفيلة بما ندعيه.
صحيفة الوقت
20 يوليو 2008