المنشور

تكريس الديمقراطية وليس التراجع عنها‮ ‬


اعتقد إن الشعوب العربية اليوم وبرغم حداثة عهدها بالتجربة الديمقراطية المتواضعة والإصلاح النسبي المحدود، والذي نعلم جميعا أن ثمة خطوط حمراء عديدة تعترض مسيرته فلا يستطيع القفز عليها أو تخطيها، ما يجعل مسألة التغيير الايجابي وتوسيع المشاركة الشعبية وتقاسم السلطة والثروات ذات نطاق محدود الدرجة والفعالية فيصير الأمل والطموح اكبر مما يتيحه الواقع، وضمن هذا الهامش المتاح يسعى دعاة الديمقراطية ونشطاء المجتمع المدني والسياسي والإعلامي والحقوقي لإشاعة وتعميق الثقافة الديمقراطية والحريات الأساسية المسؤولة وإيضاح أخطائها ومزالقها أيضا، ومعالجة ذلك بالمزيد من الكشف والمصارحة والشفافية لتكريس الديمقراطية وتقوية جرعاتها، وليس العودة عنها والتباكي على العهود الماضية، زمن العتمة، والقبضة الحديدية والاستقرار الهش والحريات المنعدمة والدساتير المعطلة والمحاكم الاستثنائية والصحافة المقيدة والسجون الرحبة والمنافي القسرية والطوعية والمعلومة المخفية.  ولا احد ينكر إن مراحل ما قبل الديمقراطية وفي ظل المركزية الإدارية الرسمية قد تشهد الكثير من أوجه النمو الاقتصادي والتعليمي والصحي والخدماتي، وقد يعود ذلك إلى توافر الموارد المالية والرغبة في التطوير والتحديث من اجل إحداث نقلة نوعية للبلد تضعها في مصاف الدول المتطورة، لكن يصعب الحديث عن تطور من أي نوع دون تنمية سياسية ومناخ ديمقرطي وبنية تشريعية عادلة ومنصفة ومؤسسات دستورية وتمثيلية وشعبية ذات صلاحيات حقيقية وأحزاب سياسية ومنظمات أهلية حقوقية وصحافة مستقلة وتعددية سياسية، والاهم من كل ذلك حكم رشيد ومنفتح يقبل المساءلة والمحاسبة ويتعاون مع السلطات الشعبية ويمدها بالمعلومة ولا يضيق ذرعا بالحرية الإعلامية، ويستجيب لكل ما تقتضيه الحياة النيابية من مطالب وأسئلة تتعلق بالإيرادات الحقيقية للبلد وثرواته ومستقبله وحقوق مواطنيه واجياله القادمة، وتشارك في رسم كل استراتيجياته من اقتصادية وأمنية وسكانية وإسكانية وتعليمية، يصعب التغني بمرحلة تقصي الحريات المدنية للفرد وتنكر الحقوق الإنسانية التي ناضلت من اجلها الثورات الإصلاحية من بداية التاريخ والى يومنا هذا مهما أنجزت من تطور وتحديث.  أن تطرح أي دولة نفسها كدولة قانون ومساواة وتكافؤ فرص ومرجعية قانون ودستور فيجب أن تخلق البيئة الكاملة المساعدة على تنفيذ القانون وإشاعة المساواة في كل مكان وبين جميع الطبقات، ولا تكون المؤسسات الرسمية هي ذاتها المتهمة بخرق القانون أو التلاعب عليه.  إن التحول الديمقراطي قد يتزامن مع بعض أوجه الانفلات وسوء استخدام الحرية نتيجة حداثة التجربة وعدم نضجها، وقد تتعطل بسبب ذلك بعض المصالح أو تتأخر لكن كل ذلك وارد وطبيعي ومتوقع، فالتجربة الديمقراطية لا تؤتي أُكلها بين يوم وليلة كما إنها أيضا ليست ترفا زائدا عن الحاجة نطلبها اليوم ونستغني عنها في الغد، بل هي حاجة أساسية وضرورية ولا حياة لإنسان عصري دونها، وهي تتعزز بالممارسة المستمرة وبالتراكم، والذين يخشون امتدادها ونموها واتساع صلاحياتها هم في الغالب من تتضرر مصالحهم وتتقلص امتيازاتهم ويخضعون لمساءلاتها فيضعون العراقيل في طريقها ويساهمون في تعطيلها وتشويه صورتها. إن دور المثقفين والمفكرين والإعلاميين وقادة الرأي الديني والسياسي والاجتماعي يكمن في تعميق ثقافة الديمقراطية يوما بعد يوم والتصدي لكل خطابات ومنافذ الانغلاق الفكري والديني والسياسي والعمل كمرشدين ذوي ضمائر حية لتصويب التجربة وليس وعاظا ممالئين للسلطات الزمنية والدينية ولكارهي الإصلاح على اختلاف مسمياتهم.
 
ألأيام 17 يوليو 2008